انترلاكن أرض العشاق
خرجت من جنيف في صبحٍ باكر…و لم يزل هناك بقايا من سحب الظلام لم تنقشع من سماء تلك البلد…خرجت وسط هدوء يسكن المدينة….لا ينقض ذلك الهدوء سوى تغاريد بعض الطيور التي تبدو وحيدة خلال ذلك الصبح… فترفع صوتها بالتغاريد فلا تجد من يستقبل لحنها ثم تعود لعشها وصغارها….
السماء بسحبها المتقطعة ترسل قطرات من المطر على زجاج سيارتي….تتجمع تلك القطرات الصباحية على الزجاج فتمر عليها الماسحات الأمامية للسيارة فترميها على أطراف الشارع…. الأرض من حولي بعشبها و زهرها و جميل أشجارها تتمايل عبر نسمات الصبح الهادئة….الجبال المحيطة بجنيف من جهة الطريق المؤدي للوزان قد زرعت بالعنب بشكل مكثف متناسق…صفوف متوازية عبر خطوط ممتدة من أسفل الجبل إلى أعلاه …الفلاحون ينشطون على أطراف الطريق…و يتفقدون أراضيهم في أول صبحهم….…أو يقودون حراثاتهم فترسم أمشاطها لوحة بنية طينية قاتمة في وسط مزرعة خضراء جميلة….في كبينة السيارة أغراضي المبعثرة في المرتبة الخلفية…. و صوت المسجل وهو يترنم بالقرآن هو أجمل ما ينزل بالنفس الطمأنينة في هذا الصباح….سورة يوسف تبثها مضخمات الصوت بصوت عبدالباسط فيملئ الفضاء…بصوت يتأرجح بين العلو و الإنخفاض بقدرة عجيبة على إصدار ترتيل مترنم بالقرآن الكريم….صوته يجعلك تعيش قصة يوسف و ما فيها من العبر و تتبع أحداثها المتسلسلة…أخوتي : إن في سورة يوسف للمسافرين آية و عبرة و عظة….فيها غربة و فقدان للأهل و الوطن و الأحبة…….سبحان الله كم في تلك السورة من الآيات و العظات…فدعونا نسعرض بعضها لتكون للمسافرين وقفة…
قال تعالى / (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) هنا يوسف عليه السلام قد تعرض للفتنة في مكان اجتمعت كل الأجواء المناسبة للمعصية…غريب في أرض غريبة….في بيت جميلة من بيت عزيز….و زاد على ذلك أنه في قصر محفوظ و الطلب من صاحبة البيت……هل هناك أشد اختبار و أكثر امتحان و أصعب بلاءً من هذا البلاء …فنجاه الله في الأولى …و لكن الاختبار مستمر….و شياطين الأنس و الجن في محاولة دائمة و بلا يأس من الوصول لأهدافهم…. لذا إن المسافر في سفره غريب عن أهله و وطنه …في الغالب لا تحكمه الأعراف و لا يخشى الناس… و الفتن قد تحيط به من كل جانب..و الشيطان يزينها له في كل حين …و النفس قريبة من شهواتها…مالم ترتبط بحبل متين برب العالمين…و هو على جرف ما لم يتقوى بالإيمان الصادق ..فالخطر قريب مهما كان يحمل من ثقة و يقين بالنفس… قال تعالى / (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قد ينجوا الإنسان من الفتنة في موقف واحد…و لكن قد يبتلى في مواقف عدة…فهل يصبر ؟ هنا يكون الاختبار …لذا لنجاة …لنجاة.. قال تعالى / (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) قال يوسف عليه السلام السجن أحب إلي ….السجن بكربته و شدته أهون عليه من ابتلاءات و اختبارات متكررة …فالسجن أثره منتهي و المعصية قيودها لا تنفك و يخاف أن ترديه المهالك…فهو اختار السجن الدنيوي و قيوده و لا سجن المعصية و قيود الوزر و الإثم والتي يخاف إن نجا منها مرة وقع في شراكها مرة أخرى…لذا من كان في كامل عقلة لا يعتقد أنه في أمان من الفتن في السفر أو الحضر…بل يداوم على حماية نفسه بالبعد عن مواطن الفتن و أماكن الشبهات و الإكثار من الدعاء بالثبات …. فالشيطان متربص للمسلم الغريب عن وطنه ببث الشهوات و الشبهات في نفسه . قال تعالى /(38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) إن المسلم في مهمة عالمية…في مهمة سامية …في أي أرض و في أي مكان ..فهمه الأبدي كيف ينشر الخير و يوصل الحق للغير…فيوسف عليه السلام لم ينسه السجن و كربته أن يبتعد عن رسالته…فهو داعية للحق..فبدأ يدعوا من دخلوا معه السجن لعبادة الواحد القهار…و بدأ ينشر التوحيد بين صحبة بالحكمة و الموعظة الحسنة…وبالإقناع بطرق تجعل الفرد يصل للحقيقة بنفسه…فهل نستفيد من رحلاتنا في الدعوة لله و بيان و نشر هذا الدين . قال تعالى / (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) هنا حرص يعقوب أن يدخل بنيه من أبواب متفرقة و ذلك مخافة العين أن تصيبهم و ذلك لكثرتهم و لجميل مظهرهم…و هي تبين حال الأب مع بنيه و خوفه عليهم في سفرهم…و كذلك يظهر لنا أن كل شيء يتم بتخطيط …و كذلك تحث على أنه يجب أن يعمل بالأسباب في حال السفر…و بأخذ الحيطة و الحذر…و أن ذلك لا ينافي حقيقة التوكل و لا يرد القضاء المقدر… إنما هو فعل للأسباب…و لذا فقال و ما أغني عنكم من الله شيئاً…فعلينا في سفرنا أن نحتاط و نخطط و على الله نتوكل قال تعالى / (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) الغريب المسافر في حال ضعف … إن يد الإنسان مهما كانت قوية فإن يد الغربة أقوى بل إن الضعفاء من أهل البلد أقوى من الأقوياء من الغرباء …و هو يخضع لقوانين البلد الذي إليه سافر وقصد…فعليه أن يكون بحرص بأن لا يقع في مكيدة ترديه إلى مصيبة…ففي قصة يوسف وضعوا السقاية في رحل أخيه …فتم الحكم عليهم بأخذ من كان منهم متهم بالسرقة و لم تنفعهم مبرراتهم المنطقية التي بدءوا يبثونها…فالحذر من أن تزل القدم بنا في سفرنا فحال المسافر مهما كان ضعيف …و وضعه قابل لأن ينهار في أول اختبار قال تعالى /
( (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) و قال تعالى / (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) إن الوالدين في حال شقاء أبدي خلف أبنائهم…فلا يمنعنا سفرنا أن نتواصل معهم…بل لا تنسينا دنيانا مهما كانت من رحلاتها في سفر أعمال أو سياحة أو شهر عسل…أن نتواصل مع من يحترق قلبه من أجلنا…من أن نطمئن من يسكن الهم و الحزن قلوبهم من أجلنا…فعيونهم تبيض من الحزن…و قلوبهم تشم من بعد رائحة الابن…و تواصلنا معهم هو بمعنى الحياة لذلك الأب أو الأم…فلا تنسوهم فإن نسيانكم لهم هو وسم في قلوبهم لا تمحوه الأيام و لا تزيله الدهور… قال تعالى / (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) نعم هي قصص تتلى إلى يوم القيامة ..فنسأل الله أن يجعلنا ممن يتعظ و يعتبر..و لمن أراد الاستزادة بشرح مبسط متكامل جميل …فعليه الرجوع لتفسير الشيخ السعدي رحمه الله تعالى مع هذه الآيات… يمتلك الحزن صدري…و تسيل قطرة دمع من عيني…فقد جعلتني الغربة أقف مكان الفاقد لأبنه…و المتلهف لرؤيته…و المشتاق للقائه…و المنتظر للفرج بعد الصبر…سبحان الله كم في تلك السورة من الآيات و العظات.
أقبلنا على مدينة لوزان في وقت مبكر…كانت الإطلالة عليها من أعالي جبالها…أطلت الشمس من المشرق و نحن من جهة المغرب…ظهرت البحيرة من الجبل ممتدة بلا حدود….و يقبع بجوارها جبل مغطى بالشجر…
الجبال تحف البحيرة بصورة كأنها تحتضنها من أن تنساب….ظهرت لي القرى من القمم كبقعة جميلة متناسقة ….خضرة و بحيرة و بيوت بالقرميد متزينة…
طرقات فسيحة ممتدة….و شوارع ضيقة متداخلة …الممرات متعرجة حتى تصل بك إلى البحيرة…تمر من خلالها ببيوت قديمة و سيارات مركونة على أطراف الطريق بشكل يجعلك كأنك في اختبار للقيادة…البيوت مصطكة رغم ذلك منظمة بشكل جميل…ألوان زاهية ممتدة….
أمام كل بيت حديقة و من نوافذها تطل الزهور كزينة….و نوافذها مزينة بأشبك مزخرفة بشكل جميل….هناك تكون في عالم آخر عالم ساحر….عند أبواب أغلب البيوت قارب للتسلية في البحيرة…و سيارة فخمة للعمل و التمشية ….و غرفة صغيرة لكلب قد وضع رأسه عند ذيله…كبار السن يخرجون من بيوتهم في وقت مبكر….بعضهم قد تنسد على كرسيه المتأرجح….و بيده كتاب يقلب صفحاته…و جسمه الممتد على الكرسي المهتز يتقدم و يتأخر…و شعره مع حركته يتطاير…زوجته الكبيرة بالسن بيدها إناء السقاء …تروي الأشجار و تمطر على الأزهار….الأزهار تتقاطر من على خدودها حبيبات الندى…..النحل و الفراش يحوم حول تلك الحديقة الغناء …و الطيور تغرد بأجمل الألحان….الشجر يحرك الهدوء ببعض الأوراق المتساقطة…الأرض بخضرتها …و الزهور بحسنها ….و البحيرة بجمالها …و السماء بصفائها…. و السحب بحركتها …و الطيور بتغريدها ….و الشمس بدفئها… و الهواء بنسمته…. و الناس ببشاشتهم و ابتسامتهم …و الحياة بسعادتها …هي كل مايجمع تلك الأرض…الوجوه هناك بشوشة…و الأرض بزينة الدنيا مزدانة…الأطفال مع أهلهم يتجولون…و في الحدائق يلعبون…و في عالمهم مستمتعون…
النوافير في أرجاء البلد منتشرة.. و بأشكال مختلفة….و رذاذها ينزل على الجسم برقة….و منظرها يزيد القلب بهجة…..هناك الأشجار دانية…فهي كستارة تحجب عنك مسرح البحيرة…
و عندما تهب النسمات يتجلى لك سطح البحيرة بزرقته الصافية…و بوسطه مجموعة من السفن المتناثرة…يتأرجح بها الموج فتسر العين بنظرتها و القلب يبتهج من بياضها….
قطار الحياة هناك متسارع ….و أوراق الأيام كأوراق الخريف المتساقط…من ينعم بلطف الجو و حسن المنظر تسير علية الأيام بسرعة….أقف متأملاً ذلك الحسن…و أتفكر بذلك الجمال….و كيف أن تلك الديار قد شربت كأس الحسن من بقاع الأرض…إن الحسن في عيني و في قلبي يسكن و لا يغادرها….و الجمال في نظري لا يشبه الآخرين…و في قلبي ليس كمثله شيء…إن الجمال يضرب أطنابه في أعماقي …و يغرس جذوره في أرضي….فيعيش معي العمر كله…فيرافقني في أيام حياتي…ففي أحزاني أتذكره و يكون أنيسي…و في أفراحي أتأمله فأكتشف أشياء جميلة فيه فيدخل السرور إلى قلبي….إن للجمال مخزناً في كل مكان من جسمي…فهوي يبحث عن أطرافي فيعيش فيها…و يبحث عن زوايا حياتي و يرسم له رسمة في جدرانها…و يبحث له عن و رقة من ورقات أيامي فيدون أسمه في سطورها..و يبحث له عن لحظة من لحظات عمري فيتشبث بعقاربها…إن الجمال و إن لم تحسه في وقته ..فهو أثر مركون…و حسن مخزون…و نبعُ مدفون…و خيرُ ينتظر وقته المعلوم…و نهر قادم من مصادره من مخزن الجمال من أعالي جبال الجسم الشاهقة….لذا عندما أكون في مثل هذا الموقف…أطيل النظر …و أنظر و ببعد إلى كل شيء…
بل إني أحس أنني أغوص في الأعماق…فلا تردني صفيحة البحيرة عن الوقوف بنظراتي…و لا تحدني قوة الجبال أن أتجاوزها بتأملاتي…و لا تهزني الرياح أن أقطع حبل أفكاري…و لا يشغلني أي صوت أو ضجيج أن أقف عن سماع لحن الحياة الخالد صوت الجمال العميق في أركان الطبيعة….
إن جمال الطبيعة…هو أعلى جمال…و هو أكمله حسناً…و هو أفضل منظر يسر و يبهج…فهو يجمع الحسن كله…فهو جمال يدل على الخالق…و يهديك إلى المصور…و يجعلك تتفكر بالكون و مدبره…و بالرزق و الرازق…يجعلك مرتبط بمن خلق و صور…بمن صور و أحسن…فلا تملك أمام هذه الصناعة و الخلق …إلا أن تقول : سبحان الله العظيم…و تتبعها بكلمات هن يخرجن بدون أن تسدرجهن …لا إله إلا الله….خلق فدبر…و صور فأحسن…منظومة جميلة متناسقة…لا ترى فيها عوجاً و لا أمتا….جمال يشع في كل منظر…جمال في أصغر الأشياء و أكبرها…جمال من وريقات الشجر المتساقطة إلى رؤوس الجبال العالية….جمال ساكن و متحرك…من سحب سائرة و أنهار جارية….جمال يهدي الحائر ….و يدل الغافل… و ينبه الساهي… و يوقظ النائم…. فيقول بصوت الطبيعة المرتفع….أن لا إله إلا الله الخالق المصور…فسبحان الله…لم تجذبني في أنحاء العالم التي إليها سرت و ارتحلت إليها…لا تماثيل محسنة الصنع…و لا أبراج شاهقة الطول…و لا طرقات مخترقة الجبال…و لا قصور عامرة للديار…و لا أي شيء تدخلت فيه يد الإنسان ….
بل إن كل ما يحرك في نفسي التفكر هو خلق الله….فهذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه……إن من يسير في دروب الحياة… و يمر في أراضي مختلفة …فترعي اهتمامه مشاهد متنوعة….. و تجذبه حضارات متباينة …و لم يجذبه صنع الله فيجب أن يعيد تفكيره و أن ينير طريقة …فقد ترك متعة أكبر و نعمة عليها يؤجر…و طريق يضيء ابد العمر….لعلنا نجد الكثير منا يتحدث و بإسهاب عن ما شاهده من تقدم ملموس من صنع البشر…و ينسى أجمل ماتحمله تلك الأرض من جميل صنع الله سبحانه و تعالى….
بعد أن قضيت في هذه المدينة بعض الوقت ….عدت من حيث أتيت …حيث عاودت سيارتي تسلق الجبال القريبة..كان الوداع الأخير لتلك الأرض بمشهد بانورامي جميل….سجلت خلالها في دفتر أيامي شيئاً من إعجابي بهذه المدينة…مرشدي و دليلي الآلي يقودني إلى جبال شاهقة…و طرق وعرة و أماكن مرتفعة….و لا أعرف إلى أين المصير؟…و لكن لم أعتد منه إلا كل خير…فأمسكت بمقود السيارة… و تبعت سهمه …و تبينت طريقي الذي يخطه….و لا أخفيكم أن الخوف بدا يدب في نفسي…و الهم يتسلل إلى أطرافي…فلقد رأيت سهم و مؤشر الدليل يقودني إلى مرتفعات شاهقة….تشاهد أوسط جسمها و تغطي رأسها السحب الداكنة…
بين الإحجام و الإقدام لم يدع لي الطريق مجال للعودة أو التراجع عن رأيي…بدأت سلسلة الجبال بطريق بحري يحاذي أقدام ذلك الجبل الضخم…و باعتقادي و تصوري أن كل جبل ضخم هو من جبال الألب أو أحد أبنائه البررة ممن بدءوا يشبون عن الطوق فصاروا يسابقون أباهم بالطول….رميت بالخوف بقاع البحيرة…و الوجل بين أشجار الغابة المظلمة…و مزقت القلق بذكر الله في كل وقت…
بدأت أتجه بطريق سريع يحمل الرقم 12 على ما أعتقد ….أنا في كبينة السيارة و عيناي في أعلى الجيل تنظران كم تبقى أن أجتاز هذه المعضلة… و كلما اعتقدت أنني وصلت إلى أعلى الجبل بان لي من خلفه جبل أعظم و سواد من السحب اشد…فيولد أحساس بالخوف من جديد في أرض الوجل الذي ظننت أنه مات من قبل…و ينبت شعور بالقلق في أرض الطمأنينة التي اعتقدت أني و صلتها…عيون القططة تنبهني أنني قد دخلت إلى مسار غير مساري…يداي و بدون شعور تعيدان المركبة إلى خط سيرها الصحيح….
اللوحات المصطفة على جوانب الطريق عدة…و عيناي متعلقتان بكل لوحة..فهي تناظر و تتابع إرشاد تلك اللوحات إلى منحنياتها …و إشارات جسورها و تحذيرات أنفاقها…و أسماء مدنها…كل لوحة ابحث فيها عن ما يطمئنني أو يبعث في قلبي السكون…و لكن كل لوحة هي أردى من أختها….بعدما تجاوزت مرحلة أعتقد أنها هي الأسوأ في رحلتي…
وصلت إلى سفح الجبل…فبان لي منظر عجيب….و مشهد فريد…و ارض لم أعتقد أن عيني سوف تعانقها…على فوق الجبل…امتدت الأرض بلا حدود….منبسطة فكأنك بمستوى البحر…و فيها بحيرات متناثرة…و فرشها الخالق ببساط أخضر من أولها إلى مد النظر فيها….لا يقطع تلك الأرض الخضراء المنبسطة…إلا نهر جاري…أو طريق مرصوف…أو منخفض تختبئ خلفه بقعة أجمل…أو سواد داكن من سحاب في السماء ساكن….أو كوخ مزروع وسط تلك الأرض…أو جسر مشيد يعبر بك مابين دفتي النهر…أو خيل يسابق الريح…أو ورقة متحركة من شجرة ساقطة…
و تشاهد الهدوء قد سكن تلك الرؤوس العالية من الجبال…. أخذت ابحث عن مخرج من الطريق السريع…حتى أصل لتلك القرى الصغيرة الجميلة….وجدت منحنى صغير فدار بي نصف دائرة…ثم رماني في جنتي حائراً…ركبت الطريق الفرعي و بدأت أقص اثر تلك الديار…
فلما وجدت أرضاً منبسطة …و مطلة على من حولي آثرت أن أزرع فيها لحظة من لحظات عمري…آثرت أن أقيم معها علاقة تبين مدى حبي لها…آثرت أن أضمها و أن أتحسس أرضها…أوقفت سيارتي في منبسطها…
و أنزلت آلات العزف التي أعشقها…و بدأت أنشد لحن الحب الجديد بآلات الحب القديم…أخذت ريشة معزوفتي من أطراف نواة تمرتي…و صوت أحبابي من خرير دلتي…و جمال ذكرياتي من قرقشة فناجيلي…جلست و بين يدي حبيبتي ( أغراض قهوتي )…و في عيني عشيقتي الجديد في أرض غربتي ( أرض سويسرا الخضراء المنبسطة )…و في قلبي نبض عمري و حياتي و مهجتي ( أهلي و زوجتي و أطفالي )…
جلست و يمر من جانب الطريق بعض السويسريون الذين يستغربون..من هذا الذي جلس جلسة المتربع…على أرض لم يلبسها بفرشة…و على قارعة الطريق غير مبالي بمن حوله…جلس و يخيل إلي من يشاهده أنها انقطعت به السبل…و أن أمراً به نزل…و لا يعلم أنه في عالم آخر…قريب في جسمه بعيد في تأملاته….فلما أحسست أني أعطيت نفسي حقها….
أكملت مسيرتي باتجاه ارض العشاق…حيث إنترلكن التي تفصلني عنها مدينة بيرن…..أكملت مسيرتي فوق الجبال حتى اقتربت من بيرن فهبطت بانسياب لطيف يجعلك تحس انك في مدينة العاب
…فلما وصلت بيرن كنت متردداً …هل أذهب إلى إنترلاكن أم لا ..فقد علمت أن البحيرة قد فاضت و أن الأشجار قد تساقطت….و أن القطارات تعطلت…و أن فرق الإنقاذ لم تتوقف من إنقاذ المحتجزين وسط المياه…أو المصابين جراء الانزلاقات…و لازالت كلمات أخي
ومرشدي أبو ريان تحذر من مغبة الوقوع في تلك البقعة الغارقة…و تذكرت أن هذه فرصة …و الفرص قد لا تتكرر…توكلت على الله سبحانه و تعالى…و تزودت بالوقود الكافي من أحد محطات الوقود على طريق إنترلاكن…و سألت الموظفة هناك…عن حال الطريق و الأخبار في تلك البقعة..فقالت لقد عاد الهدوء إلى المدينة …و أن الأمور تسير بشكل أفضل…ربطت حزام الأمان…و ودعت الموظفة و المحطة و شققت الطريق بسرعة الهائم المشتاق….
تعرجات الطريق و منحنياته تجعلني أحس أن خلف كل جبل مفاجأة…أو أمراً غير متوقع….أو أن الأشجار المتزاحمة تحمل بينها أمراً مهولاً…و أن السحب المتراكمة تحمل في بطنها نذير عاصفة أو اقتراب كارثة….حتى أن الهواء الذي يحرك الأغصان يحرك في النفس الرعب…و الأمواج التي تثيرها العواصف تنشأ بالنفس الخوف…
و الأكثر من ذلك أن علامات التحذير على الطريق منتشرة…و سيقان الأشجار في الطرقات معترضة….و على جانب البحيرة أكوام متجمعة من بقايا ألواح خشبية أو قطع بلاستيكية ….
بل إن بعض الطرق لا تعمل إلا بمسار واحد…و قد سدت بحواجز….و طمرتها الرمال و الأحجار…فخشيت أن أقع بين فكي الكماشة…و أن أبقى محاصر بين أنياب الفيضانات التي أغرقت المدينة في الأيام الماضية…الجبال المحيطة من شدة العاصفة قد تساقطت أشجارها على بعض فكأنها تعرضت لأيدي باعة الأخشاب…نفسي الطموحة و نفسي المخذلة بصراع مستمر… و للحديث بقية ألقاكم بإذن الله تعالى على خير..نسيم نجد
و أنزلت آلات العزف التي أعشقها…و بدأت أنشد لحن الحب الجديد بآلات الحب القديم…أخذت ريشة معزوفتي من أطراف نواة تمرتي…و صوت أحبابي من خرير دلتي…و جمال ذكرياتي من قرقشة فناجيلي…جلست و بين يدي حبيبتي ( أغراض قهوتي )…و في عيني عشيقتي الجديد في أرض غربتي ( أرض سويسرا الخضراء المنبسطة )…و في قلبي نبض عمري و حياتي و مهجتي ( أهلي و زوجتي و أطفالي )…
السلام عليكم
أخي الحبيب نسيم نجد
غرد خارج السرب منفردا..فأنت من قدم متعةالحرف والأحساس والصورة
ماشاءالله.. منتظرين القادم
بارك الله فيك
ابو فيصل.
والله شدني حديثك الشيق ألاكثر من روعة جعلتني أعيش في خيالات جميلة
إنك لصاحب قلم ساحر ومبدع وأنيق
والله جعلت القارئ يعيش في قصة حب حقيقة…
مبد مبدع مبدع
تدويناتك لوحدها .. استجمامٌ روحيّ ..
ألوذ به بعيداً عن صخب العاصمة ..
ومزج الصورة بالحرف .. وكسوتها بغطاءٍ شفيف من الحرير ..
فنٌ لا يتقنهُ إلا المبدعين ..
حفظك الله .. وحفظ زوجك وولدك ..
ودمتَ لمحبيك 🙂
السلام عليكم
رحله رائعه وكلام جداجميل
عندي استفسار بخصوص موقع لوزان هل هي قبل ام بعد انترلاكن للقادم من النمسا
وشكرا