منتزه السحاب و عالم من الضباب
الجولة الأخيرة هذا اليوم هي تبدأ من بطن الوادي القريب من قمة جبل سحاب . تؤشر اللوحة الموجودة على طريق أبها – السودة إلى طريق ضيق يؤدي إلى منتزه سحاب .
و حتى تصل إلى هذا المنتزه تمر بشوارع أكثر ضيقاً من أختها التي سبقتها , و مزارع منتشرة على مدرجات جبلية , وقرية صغيرة قد انتشر أهلها في طرقاتها إما بالذهاب إلى أعمالهم , أو بالوقوف على مزارعهم .
و على مقربة من تلك البيوت تجد الأطفال قد أخذوا نصيبهم من هذا الشهر السياحي . فلقد مررت بطفل صغير يجلس على حافة بيتهم . أمامه بعض البرشومي الذي نظف للتو وقد أتى به من المنزل . و بيده زهور الرياحين و التي تنشر عبقها على الزائرين . منظر الفاكهة و الزهور و الطفل منظر يسر…فإن كنت تريد أن تتذوق هذه الفاكهة الحلوة فمن يد ذلك الطفل أحلى . و إن كنت تريد أن تستمتع بعبق ذلك الزهر فشذا الطفولة البريئة أعلى . أعجبني من أمره أنه يلبس ملابس نظيفة و يقدم لك الفاكهة بشكل يدل على خبرة كبيرة .
و أعجبني أكثر أن الورود التي وضعها بيده قد تم اختيارها بعناية و تنظيمها بشكل يفوق محلات الورود المتخصصة . بشذى الورد , و بطعم البرشومي , و بابتسامة الطفل , و بقطرات المطر , و بصوت الماشية في المزارع استقبلتنا القرى الموجودة في طريق سحاب .
الطريق يتعرج و ينحني حتى يقترب من أشجار بعض المزارع و نلامسها بسيارتنا , و نقترب من بعض الصخور حتى نخشى منها على أنفسنا . يستقيم الطريق لحظة ثم يبدأ بالدوران حول الجبل بشكل حلزوني حتى نصعد إلى آخره . الطريق بتعرجاته يظهر لك أسفل الجبل بشكل جميل مع كل انعطاف .
و كلما أصعد إلى أعلى أسمع أنفاس أطفالي تزداد خوفاً , و أصواتهم تتأوه من شدة الصعود , ثم لم يصبروا على هذا الحال و بدأ و يطلبون العودة بالحال…و لكن هيهات هيهات لهم . ريحانة نجد عين على الطريق لمتابعته مع زوجها , و عين على أطفالها إشفاقا عليهم . حتى لفت منظرنا بعض الحيوانات من حولنا , و أصبحن يرثينا الحال بالكثير من الصريخ و الثغاء و النحيب .
لكن لا مجيب لتلك الأصوات …إلا صوت واحد يردده النسيم أن الوصول للقم ليس من المستحيل , و أن الاستعانة بأصوات الطبيعة ممن حولنا لن تهز شعره من رأسنا , و لن تغير شيئاً عن رأينا ….
مع الاستمرار في هذا الطريق يقترب السائح من السحاب و تصغر القرى التي في قاع الجبل , فتغدو البيوت كألعاب صفت بعناية على سفوح الجبال و نظمت بصورة جميلة بين أشجار المزارع التي تحيط بها من كل جهة .
في الطريق إلى المنتزه سحاب تعتقد أنك الوحيد . و عندما تصعد تجد أن أغلب السياح قد استقروا في أماكنهم منذ وقت مبكر من النهار .
البعض منهم قد استعد بالخيام بلاستيكية تحسباً لقطرات قد تنثرها السحاب . فبدت تلك الخيام بشكل لوحة هندسية رائعة بألوانها الزاهية بين أشجار الطبيعة التي تغسلها الأمطار باليوم أكثر من مرة فغدت خضراء فاقعة ناصعة .
على جانب آخر تجد بعض السياح قد أوقفوا سياراتهم تحت الأشجار و استظلوا بظلالها و اختفوا عن أعين الناس خلفها . أطفال يركضون من بين الأغصان يظهرون ثم بعد برهة يغيبون عن الأبصار .
هناك و في أسفل الجبل عائلة قد فصلت بين رجالها و نسائها بفاصل يفصلهم عن بعضهم , و لم يظهر منهم إلا دخان الشواء يثور في السماء .
كل تلك الصورة تظهرها السحب تارة و تخفيها تارة . فالناس يعيشون في جو ضبابي بهيج . يجعل أدخنة السحب تلامس الأشجار , و تتخلل الجلسات , و ترسم على الوجوه البسمات. من ينظر من القمة يجد السحب تمر من تحته . أو تمر من بين يديه أو قادمة من بعيد إليه . في منتزه سحاب هناك الحقيقة تعانق الخيال . و يعتبر بصدق تغير كامل بالأجواء .
و من صعد القمة فعليه أن يبحث مكاناً آمناً من الأمطار فيتخذ جلسته , أو يستأجر من المنتزه جلسه مطلة , أو يطوف بسيارته تلك القمم ثم يعود و يبحث عن مكان آخر في القاع بين المزارع . أخذنا جولة مطولة و التقطنا صور عدة ,
ثم نزلنا من الجبل و كانت السحب تذروا القطرات على الطريق , فكأن السحاب أبت إلا أن تفرش الطريق برطب الندى لاستقبال السياح .
و كما استقبلتهم بتلك فإنها تودعهم عبر حبيبات تنثرها على الزجاج . تحركت ماسحات السيارة و كأنها تمسح دموع الوداع من على عيون محبيها .
بين قاع الوادي و قمة الجبل كل شيء تغيير , السحب التي كانت تتطاير في السماء وكنا نراها كفراش ابيض انتشر في السماء . أما الآن فهي فوقنا و بقطراتها تغازلنا .
شققنا الوادي بأشجاره , و بآثار الأمطار التي قد مرت من على ممراته متجهين إلى الطريق المؤدي إلى السودة . في طريقنا ذاك و جدنا طفل قد أستند على جدار قصير بجانب منزلهم , و بجانبه سلة مصنوعة من الخصاف , و بضع ترامس و أكواب ورقية , هذا الطفل يقف عند أغراضه أثناء مرور السياح و عندما يبتعدون يأخذ عربية صغيرة فيلعب فيها في ساحة مجاورة لبيتهم . وقفت على هذا الصبي و سألته :عفواً مالذي تبيع يافتى….
قال : أبيع خبز تنور و شاي بطعم النعناع . قلت له بكم الخبز يا شجاع قال : بخمسة ريال تباع …قلت في نفسي لعله يقصد السلة الكاملة …تأكدت من أمرة و أن مقصده الحبة الواحدة …قلت لأطفالي هل تريدون خبزه واحدة بقيمة أشهر الأيسكريم السويسرية أو البلجيكية , قال أطفالي : و ما لذي تتميز به هذه الخبزه السعودية أليست مثل الخبزه الأجنبية….سرحت بعيداً أجمع بعض المعلومات عن خبز التنور . فقلت لهم لقد تم عملها بأيادي وطنية مية بالمية , و هذا من قبيل تشجيع الصناعات الوطنية , و في فرن أرضيته حجرية و جدرانه طينية, و لم يستعمل في صنعه الغاز أو الكيروسين, بل ناره من بعض أغصان الشجر المتساقطة أو بعض القش أو العش , و عجينته محلية و لم تلمسها العمالة الأجنبية إلا اللهم الخادمة الاندونيسية…رغم العرض الحسن الذي قدمته لهم , لكن قد أجمعوا أمرهم ثم قالوا : أنها خبزه , و من أشكالها قد ذقنا , فالحمد الله فنحن شبعى , أخذت خبزه واحدة و كاس من الشاي حتى أرضي ذلك الصبي , و عندما بدأ لهيبها يشعل بالسيارة الدفء و تنتشر دخانها على الزجاجة الأمامية راسماً لوحة ضبابية , قال لي أطفالي : هل تسمح لنا أن نجرب تلك الخبزه ….وافقت و أنا أنظر إليهم بنظرة و أرحب بهم في عالم الصناعات الوطنية , قلت لهم هل تريدون أن تستمتعوا بطعمها على الأصول التي أعلمها . قالوا : نعم وكيف ذلك …قلت أجمعوا أمركم و ضعوا قطع الخبز التي تقاسمتموها من ذلك الرغيف في فوهة ذلك الكأس التعيس , فالخبز سيكون أكثر ليونة , و سوف يكتسب طعمه شيئاً من الحلاوة , و سوف يسهل أكله , و من ثم مضغه , و بعد ذلك هضمه , بعد التعليمات و بسرعة عجيبة , و بحركة واحدة فريدة فإذا جميع القطع في كوب الشاي تغرق , و بحركة أخرى فإذا القطع تسحب و تخرج , ثم تقطر قطرات و يختلط دخان الشاي بتلك الخبيزات …
بعد تلك الوجبة الهنيئة انعطفت بالسيارة إلى منطقة السودة . حيث هناك تكون الوجبة الرئيسية , فلقد وضعت في ذهني أن أختم برنامج هذا اليوم على تلك القمم ,
فأريد أن أغيم بين الغيوم , و تحت شجرة أن أتناول وجبة هذا اليوم , و تحت أزيز صوت بريق الشاي الذي يغلي , و صراخ أطفالي الذي يخبوا و يعلوا , كانت البهجة من أثر الشبعة على الوجوه تظهر و لا تخبوا .
بعد أن أنهينا الغداء و ظهرت الشمس بين أطراف السحب التي تغطي السماء , أخذ أطفالي جولة بين أشجار السودة فيختفون بين الأشجار و يظهرون مرة أخرى من فوق بعض مرتفعات الجبال
, تداعبهم القطرات و تشاركهم اللعب النسمات , يركضون باتجاه زهرة جديدة , أو تجذبهم ألوان زهور فريدة …
يقطفونها من الأرض ثم يجمعونها بشكل باقات متنوعة رائعة جميلة .
أقترب وقت المغيب و تلونت السماء بذلك اللون الجميل , و أرتعش أطفالي من هجمة البرد المفاجئة . فنادوا أن هيا بنا إلى جدار من البرد يحمينا , و عش من القطرات يدارينا . صلينا المغرب و أظلمت الدنيا من حولنا …فنزلن من عالي الجبل إلى ذلك المنحدر حتى كانت أبها هي المستقر …
و إلى لقاء قريب و يوم جديد من أيام أبها البهية
نسيم نجد
www.naseemnajd.com
ملاحظات من أجل تقويم طريق السياحة السعودية :
1. القرى التي على أطراف أبها تحتاج إلى تنمية سياحية , فهي جميلة و تحتاج إلى توفير منتزهات تكون مساندة لمنتزه السودة .
2. منتزه سحاب جميل بمعنى الكلمة , و لكن يعيبه الطريق المؤدي إليه فهو طريق ضيق لا يناسب حجم الحركة التي تزدحم به .
3. السودة هي المرتفع الأجمل في عرف السياح و أهل البلد , لكن لم يخلوا من ممارسات تثير التعجب . فالأشجار قد هجم عليه بعض الذين لا يملكون أي حس بمن حولهم . و لقد رأيت أحد المتنزهين يجلس قبل المغرب حول نار تضطرم بشجر أخضر من تلك الغابة , فليتنا نعلم أننا في عملنا هذا قد حرمنا أنفسنا و أبنائنا تلك النعمة . وهي الظل الوارف و الزينة التي تزين تلك البقعة .
4. مداخل منتزه السودة و مخارجها بحاجة إلى توسعة أكبر من الموجود , فهي تزدحم قبيل المغرب بشكل لا يسمح للزائر أن يدخل أو يخرج منها بسهولة .
5. هناك فرصة لعمل حدائق مشابهة للزراعة على المدرجات المنتشرة على سفوح الجبال , فلو تم سقيا تلك المدرجات و زراعتها و عملها بشكل حدائق طبيعية للسياح لكانت أجمل مما نتصور .
6. الباعة الوافدين في طرقات السودة يجعل المرء يفكر أين السعودة , و أين الاستفادة من تلك المواسم الخيرة . نعم نحن نحب الخير للجميع , و لكن خيرات البلد يجب أن تستغل من أهل البلد , و الأقربون أولى بالمعروف .
7. التوعية المرورية أيضاً تشكوا من ضعف حالها في تلك البقعة , فهل يعقل أن يتحول الطريق ذو المسارين إلى طريق ذو أربع مسارات . ثلاث مسارات إلى نزول و مسار واحد بصعود و بدون أي نظام . ناهيك عن الخوف المستمر من هجمات السيارات القادمة من القرى الجانبية .
8. وجود نقاط التفتيش التي تتركز في طريق السودة و بدون أي حملة تفتيشية يزحم طريق السودة و بدون أي فائدة . فليت النقاط إما أن تفعل و يكون فيها عمل أو أن يتم فتح الطريق أمام المارة ليعبروا بسهولة .
9. المياه و دورات المياه بحاجة إلى زيادة و إعادة نظر في نظافتها و إعادة تأهيلها .
10. أول الموسم السياحي حماس منقطع النظير . ثم آخره فتور يضع كل المجهود الذي سبق . نحن نريد أن نحافظ على سمعة البلد في أول الموسم و آخرة .
11. أعتقد أن أبها بحاجة إلى دعم كامل أيام الصيف و ذلك بتوفير عمال بلدية مساندة للعمالة الأصلية , فالموسم من المستحيل أن يكفيه نفس الطاقم في أيام السنة العادية .
12. مزج الصبغة الأساسية للبلد , مع طابع التجديد يعطي شيئاً من جمع الأذواق و المحافظة على السمة الأساسية .
13. نحتاج إلى لجان سياحية تخطط طول العام و تسافر لبقاع عدة من العالم للنظر كيف يستثمرون السياحة , و كيف يخططون لمثل هذه المواسم . و هذا طريق من طرق التطور .
نسيم نجد
روابط بقية الحلقات :
راائعة رحلتكم!
ذهبت لمنتزة السحاب أكثر من مرة، جميل وطبيعة بكر ولكنه متعب ..
أحييك على تميز اسلوبك .
سلوى يقول :
سبتمبر 12th, 2007في10:10 pm e
راائعة رحلتكم!
ذهبت لمنتزة السحاب أكثر من مرة، جميل وطبيعة بكر ولكنه متعب ..
أحييك على تميز اسلوبك .
أختنا الفاضلة..
حياك الله بين سطور موقعي
و حياك الله في منتزه السحاب الحرفي
و حياك الله بنزهة سهلة بدون تعب أو مشقة ..فحيا هلا بكم
و بوركت أختنا على مروركم
و بوركت أن بلغنا نور سطورك
السلام عليكم
مشكور اخوي على هالموقع الحلو والمواضيع الحلوه
بس ياليت تذكر تكاليف الرحلات الي تقوم بها من إيجارات وسفريات وطعام إلخ
سلام كليكم ورحمة الله وبركاتة ان الصولر جميلة جدا مشكورة