اعتذار
أشعر أن الملل قد تسلل إلى نفوسكم مع تأخري بإنزال هذه الحلقات …و لم يعد يهمكم أيهما الألم و الأمل من رحلتي…إن الألم اليوم تغير في حياتي …فهو ألم بالتقصير معكم ….و الأمل يتحرك في نفسي و يفوح عطره في أطرافها…إن أملي اليوم جديد …أملي أن أكفر عن عثرتي و أن أعود إلى ميدان الحرف… فأكتب لكم من جديد …لا لتسعدوا بحروفي البسيطة …بل لتبلغ السعادة منتهاها في نفسي أن عدت إلى عيونكم الجميلة…لقد غبت و عيني ترقب كلماتكم فأخجل …و تلاحظ نبضها الذي يخفق بصدري فأحزن… أخوتي إن من أمتع لحظات حياتي… هي تلك اللحظات التي ترسم أصابعي من أجلكم الكلمات… و تنقش من أجل خاطركم الحروف…فهي تخاطب قلبها و تنتظر أن تُسعد بعضها …فسَاَمَحَني الله على إعراضي عنكم رغم التفاتكم إلي…و لكم كل أعذاري و خالص تقديري و احترامي .
الطريق إلى سويسرا
أعود بكم إلى ميدان رحلة الأمل و الألم …و بالتحديد إلى مدينة بون الألمانية فقد عزمت من قبل أن أستأجر سيارتي من هناك …فكانت رغبتي أن أقود سيارتي التي أعتدت عليها و سافرت بها إلى النمسا…سيارتي التي ألفتها…و ارتحت بقيادتها و هي المرسيدس السوداء [ أيضاً كانت العروض الخاصة بالتأجير خيالية ] ..و لكن صاحب مكتب التأجير تعذر و خيرني بين سيارتين هما الفلكسويجن ..فرفضتها و بقوة…فقال أمامك خيار أخير…وهي سيارة audie 6v وهي سيارة لم ترق لي…
فقد كرهتا من اسمها …أما عن مواصفاتها فأنا جاهل بالسيارات و أنواعها…لم يكن أمامي خيار..ركبت سيارتي الجديدة…و إظهاراً للحق …كانت سيارة أليمة ( هذه الكلمة الأخيرة ” أليمة ” استقيتها من حديث أخي الشاب مشرف بوابة أسبانيا…فهي كلمة متكررة على لسانه …وهي تعبر عن الإعجاب الذي يصل إلى حد الألم…و كذلك من الكلمات التي وجدتها عنده و يكثر تردادها قوله : أنا شاب بيتوتي…فسألته عن بيتوتي و معناها …فقال إني كثيراً ما أجلس بالبيت فأكون بذلك بيتوتي…ففكرت بنفسي فقلت أنا شرشوعي لأني أجلس في الشوارع و أقضي أشغالي بين الطرقات متنقلاً في المحلات أكثر من جلستي بالبت…لذا صنفت نفسي باشرشوعي ..فهل أنتم بيتوتيين أو شرشوعيين مثلي ) نعود للحديث …إنها سيارة من فخامتها تصيبك بالألم ….مليئة بالضواغط و الازارير و اللمبات التي تؤشر في كل وقت و حين..
فكأنك في كبينة قيادة الطائرة …أو في غرفة الملاحة لفرقاطة… أو في أحد غرف المراقبة في وكالة ناسا الفضائية …..نظرت إلى جميع المفاتيح قرأت كل المؤشرات….انطلقت في الفضاء الرحب تاركاً بون الألمانية وراء ظهري….و دعتها و ودعت بعض ذكرياتي الجميلة …و الكثير من الذكريات الحزينة …و حملت الكثير من الانطباعات الباهتة عن تلك البلدة التي لا لون لها و لا رائحة…فلا أعرف هل هي جميلة أو سيئة….
و دعتها بعدما أغلقت شقتي التي أحتضن فيها الجميل من ذكرياتي …في شقتي كنت أعيش جواً خاصاً…كان الفراغ و الهدوء هما المسيطران…و رغم ذلك فهي أحب إلي ألف مرة من شوارع تلك المدينة الصاخبة….في شقتي كنت أستلقي فيها على سرير مركون في أحد زواياها…و تقابله نافذة مطلة على أحد الشوارع للمدينة…و أمامه تلفاز مليء بالقنوات الفضائية …فالنافذة تنقل لي نقلاً مباشراً لأحداث ذلك اليوم من الطقس و الأجواء و حركة الناس…وجوه عابسة و وجوه مبتسمة…و أطفال و شيوخ…و نساء و رجال…منهم الراكب على دراجته و السائر بسيارته أو الراجل الذي تسمع قرع نعاله…أما التفاز فينقل لك أحداث العالم البعيد…فيكون العالم بلا حدود….. عيناي تتقلبان بين تلك النافذتين…
أما نافذتي الأهم و أقضي أغلب وقتي من خلالها….فهو كتابٌ أحمله بين يدي…إن أغلب وقتي أقضية بمعية كتاب فأسرح بعيداً مع كاتب ذلك الكتاب…لقد كنت أبحر خارج عالمي الضيق هناك… أخرج من بين تلك الجدران الصامتة … أتنقل بين كتب و سطور العمالقة ممن حملت كتبهم معي في شنطتي… فزاحمت الكتب عدتي الخاصة بالطبخ و القهوة و الشاي و التميرات و المعمول و الكليجاء
…فجمعت تلك الشنطة مقومات السعادة الفكرية و الصحية….فغذاء الفكر و البطن قد اجتمعا في مكان واحد …
أيضاً..هناك لحظات أنس لا يمكن أن أنساها في تلك الغريفات…. إنها لحظات التواصل الجميل مع إخوتي عبر افنترنيت ممن تعرفت عليهم عن طريق المنتديات… لقد كنت أتابع وبشغف رحلاتهم و كتب أقلامهم عبر وريقات المنتدى….أما إن سألتني عن أجمل الجمال من أوقاتي في تلك الشقة …هو وقت اجتماع الأحبة بعد صلاة المغرب …فكان اجتماعنا اليومي مع بعض الأخوة و المعارف في تلك الأرض هي من أجمل اللحظات…فإن كانت يد المنتدى قد امتدت و عرفتنا بأناس هنا داخل أرضينا فقد امتدت لنلتقي هناك خارج حدود الوطن…فكنا كل يوم بعد صلاة المغرب نجتمع في شقتي و نأنس بصحبي نجتمع فنحتسي القهوة….
نتبادل الخبرة…و ترتفع بيننا الضحكة…و نحكي القصة …و نذكر الطرفة …و نقص المواقف التي فيها العبرة…إنهم أخوتي الذين جمعتهم شقة ذاك العزوبي في أراضي بون الألمانية…منهم من عرفته هناك في طرقات المدينة…أو في مسجد المغاربة…أو في ردهات المستشفيات…و منهم من كنت أعرفه خلف الشاشات عبر مواقع النت ..فتعرفت عليه أكثر في أراضي بون الألمانية…لا أقول سوى أنهم أنسي الذي لا يمكن أن أنساهم مدى حياتي….
و دعت بون وبدت لي في مرآة سيارتي صغيرة كأنها رسمه رسمت بلوحة زيتيه جميلة ….كل الأشياء التي نفقدها تزيد محبتها في قلوبنا عند وداعها…..زدت من سرعتي لكي ينقطع منظر تلك المدينة و لكي أخرج من أفكاري و ذكرياتي.. و ابدأ عيشتي الجديدة في رحلتي المرسومة إلى الأراضي السويسرية…..
عبرت من تحت الكثير من الجسور المرتفعة… و مررت من فوق الكثير من الجسور المعلق …وعانقت الكثير من الطرق الطويلة…و تحولت بين الكثير ومن الطرق السريعة ….
لقد حملت معي في رحلتي حاجياتي المعروفة و التي أحملها في كل رحلة…. في المرتبة الخلفية عُلَقت على شماعتها عشرات الملابس لعدد قليل من الأيام …و فوق مرتبتها ترامس القهوة و الشاي مع أدواتها و التي ترافقني في كافة رحلاتي ….في المقدمة شاب يجلس على المرتبة…يمسك و بقوة على مقود السيارة…ينظر بعينين ملؤهما الأمل و تحتضنان الكثير من الحزن… أجلس على مرتبة القيادة و تجلس في صدري بعض همومي النابعة من مخاوف من رحلتي الجديدة رحلتي إلى عالم مجهول…و ترقد في قلبي أيضاً كل أفراحي برحلتي التي أترقب عبرها أن تزيد من معرفتي و أن ألتقي بأرض طالما حلمت أن أضع قدمي على أرضها…هي أحلام قديمة …و آمال مرسومة…و طريق يقترب بك أن تكون في عالم الحقيقة…
في طريقي الممتد على طول الطريق إلى سويسرا ….كانت المناظر في الأراضي الألمانية شاهدة خروجي من بين أطرافها…فمراوح الطواحين الهوائية تؤشر بيديها و عبر أصابعها الثلاث لوداعي…
الأنهار تخرج فجأة من بين الأشجار و تختلس النظر لفتاها الذي خرج من بين أطرافها على حين غفلة منها …و تتساءل هل أصابه الملل مني…وخرج ليبحث عن حب جديد يتبناه قلب ذلك الرحالة العاشق ؟…
السحب التي تنتشر في السماء ترسم لوحة بين الزرقة و البياض لعلها تحرك نظرات من عاش بينها شهوراً…فلعلها تلفت انتباهه في لحظة وداعه ….
الحقول الممتدة في تلك الأراضي تشكل مربعات صفراء …زرع قد حان حصاده ونبت في أول اخضراره…فتمثلت كقطع من الذهب المنثور على سطح أخضر مبسوط ..فهي محاولتها الأخيرة لتغريني عن و جهتي الجديدة… أو كأنها تخاف أن أذهب إلى تلك المنطقة و أبدأ بقصة حب جديدة… أنا من عُرفت بأن نار الحب بقلبي متأججة ..و أن جدر العشق في صدري قصيرة…تعتليها و بسهولة أقل المناظر الجمالية …و تسحرها و ببساطة أقل الأماكن سحراً و فتنة .
كان الدليل ( النفيقيشن navigation ) لم يخطئ الطريق كما فعل معي في طريقي إلى النمسا….فسيارتي AUDEI تحمل في صدرها دليل متكامل من المعلومات…فكانت خطواتي موزونة ….و الطرق واضحة …بل كانت لوحة التعليمات في الدليل تضع لي خارطة الطريق بأجمل صورة….و عندما اقتربت من الأراضي السويسرية تغيرت النفسية إلى الأفضل…فكأني دخلت في عالم آخر…كان الدليل ينقلنا من مدينة إلى مدينة …و ماراً بقرى عديدة و مناطق مختلفة….
و منظر البحيرات المنتشرة ترتسم على أرض المسطحات الخضراء لوحة بديعة تبهج القلوب… الطيور تحف بها من كل جانب…وهذه الطيور بحركة دؤوبة تجعل منها لوحة متحركة جميلة…فذاك سرب يحلق… و آخر يغرد …و بعضها بالبحيرة يسبح….و من بعد هناك قطار سريع يشق الأرض … ويخترقاً الكون… فيحدث مروره ضجيجاً يحرك به أغصان الشجر القريبة من سكته الحديدية …فتفزع الطيور الراكدة بجانب البحيرة …
فتحلق عالياً في السماء فيختفي قرص الشمس من خلف أجنحتها….كان الطريق إلى مدينة بيزل الحدودية بين ألمانيا و سويسرا طويلاً و مزدحماً بالسيارات….و كنت سارحاً بأفكاري…التي هي مؤنسي في وحدتي….
في كبينة القيادة الهدوء هو الحاكم…و لا تسمع إلا قضمات من الكليجا السعودية التي أخذتها معي لتذكرني ببلدي و تعيد لي نفسيتي إلى وضعها الصحيح…الدخان المنبعث من فنجال القهوة يرسم لوحة ضبابية على الزجاجة الأمامية…أما الضباب الخارجي فينشئ لوحة جميلة على مناظر الطبيعة على رؤوس الجبال….
بعض العطر الذي نثرته على ثيابي يختلط برائحة القهوة المنبعثة فيكون مزيج تحبه نفسي …العطر يعني الحب و رائحة القهوة تربطني بمن أحب….رغم كل الهدوء الذي يلف الكبينة لكن أحس بأصوات من أفكر بهم و أتذكرهم …أحس بأيديهم تكاد أن تلامسني …و أنفاسهم تلبسني دفئاً يلفني….و أصواتهم تترنم في أذني… طريقي يمضي سارحاً متفكراً متأملاً متذكراً…رغم ساعاته الطويلة…وكل الذي يحرك الصمت هو رنين الجوال عندما يبدد السكون برسالة أو مكالمة….نعم… هاهو يرن …وصوت أخي من النمسا يطمئن على سيري في رحلتي…و يسألني عن الأماكن التي مررت بها و كم المتبقي حتى أصل إلى وجهتي ؟…. كانت اتصالاتي مع أخي كثيرة …و كل يوم هو و أنا في مكان مختلف …هو انتقل من ألمانيا إلى إيطاليا ثم فرنسا ثم سويسرا…أما أنا فقد تنقلت من ألمانيا إلى سويسرا ثم النمسا و رجعت عائداً….و لم نلتقي خلال تلك الرحلة …بل كنت أذهب من مكان إلى مكان فيخالفني بالمواقع ( برفقته عائلته و أنا لا أطيق الارتباط بالعائلات …) يقول عبر جواله و عبر مكالمته من النمسا….أن الأجواء هناك رائعة …ثم يسترسل بالحديث …حديث الذكريات…و حديثه لا يخلو من التشبيه الدائم بين طبيعة النمسا و سويسرا و مناطق الربيع في صحاري نجد…يستمر بالحديث و صوته يذكرني بكل أهلي …و صوت طفله الذي يصرخ بجانبه يعيد ذاكرتي إلى صغيرتي….انتهت المكالمة و عاد الهدوء من جديد …جرس السرعة ينبهني أن السرعة قد تعرضني لفلاش كاميرات السرعة المحددة في الطرق السريعة …و لكن عندما أرى لوحة الكيلوات الكثيرة المتبقية… تأمرني نفسي أن أصل قبل الغروب….الجوال يعاود الرنين مرة أخرى و لكن هذه المرة رسالة….آه إنها رسالة جميلة و كيف لا تكون جميلة و هي من أحد الأخوة الذين تعرفت عليهم في عالم السياحة …و لعلي أطلعكم عليها…. ( واصلني بصوتك..و أنا مثلك أوفيك…لو بيننا دروب المسافة بعيدة…لاشفت رقمك فز قلبي يناديك…فزت غافل لامس النار بيده…و لا تبخل بالوصل ترى القلب راجيك…ومناه يشوفك كل ساعة ودقيقة ) نعم ما أجمل الوصال و لكن ليس أن يكون على حساب الدرهم و الدينار ….فلعل صديقنا هذا لا يعلم أن اليورو هناك يساوي خمسة ريال…فالمكالمات هناك باهظة خاصة أني في طريقي إلى جنيف و أخاف أن تنتهي شريحتي قبل الوصول…فأرسلت له رسالة للرد عليه بعدما قمت بعملية حسابية ..فأكتشفت أن الوصال عبر المكالمة قد يهز ميزانيتي الضعيفة…لذا قررت أن أرسل رسالة و ذلك بعدما اخترتها من ذاكرة جهازي….رغم أنني أكره أن أرسل رسائل منقولة من الذاكرة…فليست المشاعر تنسخ و تلصق ثم ترسل…أحب أن يكتب المرسل أي رسالة مهما كانت ضعيفة المعاني و قصيرة الحروف ….و لا أن يقتبسها من مقاطع مكتوبة….لا أحب أن أكون قالباً مكرراً من الناس….هل تصدقون أنها و صلتني رسالة مكررة من عدة دول عربية…نفس الكلمات و نفس الرسالة…فهل من المعقول أن بحجم هذه الدول لا نجد من يكتب عن مشاعره… على العموم لم يكن هناك بداً من أن أبحث عن مشاعر منسوخة تناسب تلك الرسالة و أرسلها… خاصة أنني مشغول بالقيادة و الكتابة على لوحة الجوال متعبة و خطيرة…فأرسلت له هذه الرسالة..( أحبك فامنحني العذر إن قصرت في وصلك …وإن طالت بي الأيام لم أسمع بها صوتك…و إن بعدت بي خطاي اليوم عند دربك…ثق يا أروع الأحباب إن القلب في ذكرك…و إن الروح مازالت تحبك ) أقولها كمان لصاحب الرسالة ” أحبك “…فهكذا لم نخسر الدرهم و الدينار…و قمنا بعمل الواجب مع الأحباب…
و بما أننا في مجال الحديث عن الرسائل…فلم تنقطع الرسائل من أخي أبو ريان خلال تلك الرحلة…و يالها من رسائل…فهو يجيد فن النكته و التعليق الغير متكلف…يكتب خمس كلمات تجعلك تضحك من أعماق قلبك خمس أيام ….بل من الممكن أن يخرج غبار السنين الراكد في رئتك….و قد أرسل إلي من سويسرا و من إيطاليا و من أسبانيا و هو ينعم برحلته السنوية الموفقة جداً بين جمال الطبيعة الأسبانية و العراقة الاسلامية بضيافة أخي الشاب ” عبدالمجيد “…. فجزاك الله خيراً على جميل كلماتك أخي ….
و إن كان الحديث عن الرسائل و جمالها …فإليكم أجمل ماحمل جوالي من الرسائل من أعضاء المنتدى…فأجمل الرسائل المعبرة هي التي و صلتني من أخي و صديقي مساعد ” المغامر ” قبيل رحلتي إلى ألمانيا…وهي رسالة تقول ( صلى عمر رضي الله عنه بالناس الفجر ثم التفت فقال : أين معاذ ؟ قال : ها أنا ذا يا أمير المؤمنين….قال : لقد تذكرتك البارحة فبقيت أتقلب على فراشي حباً و شوقاً إليك …فتعانقا و تباكيا…فالله درها من مشاعر…فكم أشتاق لرؤياك أخي شوق عمر …لمعاذ )لم أتمالك أمامها إلا أن أتذكر حال عمر رضي الله عنه و قلبه الذي يفيض حباً …فسقطت دمعة من عيني على حال أولائك الصحب و على أخوة جمعنا بهم عالم السفر و السياحة…
أما الرسائل المشفرة فهي أحب الرسائل إلي ….فريحانة نجد تجيد هذا الفن و الذي يعتبر من الإبداع الذي لا يتقنه أي شخص…. بل هو يحتاج إلى نفس تواقة …و قلب متوقد …و يد تسيل… و عين تطرف ….و إليكم نموذج من نماذجها التي أغرقتني بها ….و إن كان البعض يتحرج من إبداء رسائل الزوجات …فأما أنا فأعتبر أن الأمر بسعة ….و أن الإبداع يجب أن لا يحجب عن الجميع …بل هو ليس ملكية فردية بل هو حق للجميع يجب أن يستمتع به كل من صنعه ….و صناع الإبداع كثر… يبدأ بمن علم من مراحل التعليم الأولى حتى من أكتشف الموهبة و صقلها و أظهرها بمظهرها الجميل…فهل تريدون أن أطلعكم على بعض صنعها و جميل إبداعها من الرسائل….فلكم هذه المقتطفات التي هي كلمات عبر لحن جميل في سيمفونية الحياة…. تقول :حفظها الله و حفظ من صقل في نفسها تلك الموهبة …عبر تلك الرسائل المرسلة و المليئة بالمشاعر… تقول :
( هل تعلم بماذا تذكرني الأوقات…مع حلول الظلام و اقتراب الشمس للمغيب فإنني أتذكر أن طفلتنا بحاجة لسريلاك و حليب….و في أول النهار فإننا بحاجة إلى كيلو جزر و خيار…و ما بين المغرب و العشاء فنحن بحاجة لمشروبات و ماء و بعض أغراض الشواء….و مع شروق الشمس أول الصبح فنحن بحاجة إلى سكر و ملح….و في الختام…لك مع هذه الرسالة ألف تحية معطرة و لا تنسى أن تمر المشغل و تأتي بالبلوزة و التنورة و جميع الأقمشة المفصلة ….و ترجع بالسلامة و مر على محل الدواجن و جيب معك عشر دجاج و فرخه و حمامة…عارفة طولت عليك و أخاف إذا كثرت ظهرك بينكسر لذا إذا رجعت أعطيتك كل أغراض الشهر ….بالأخير لك كل الحب…و لا تنسى تأتي من محل المكسرات ببعض الفستق و كيلوا من الحب ) فهل هناك أجمل من هذا اللحن…الذي ينعش القلب و يفرغ الجيب…و يذكرك بالحبيب في بداية كل شهر و يذيقك المر حتى ينفذ الصبر…فما أجمل رسائل الغرام التي هي في بيتنا حرام. و لكن إن أردتم الحقيقة …فالعواطف و بذلها تعتبر في نظر البعض جريمة….فما أحوجنا أن ننشرها بيننا …فالحب و المشاعر الجميلة هي حديقة تزداد و تزدان بقطف زهورها …فأنت تأخذها من أرض مليئة و تزرعها في قلوب عطشى…فتورق خيراً….هي نجاة و بداية لحياة…هي سعادة و نهاية لتعاسة….هي فرحة و نهاية لأيام تحمل بين ثناياها الكثير من القسوة. ..هي علاج لكثير من الأسقام…و هي شفاء للعظيم من الآلام…و هي دوحة لقلب تغرد في وسطه الفرحة….فهل بعد هذا نبخل….فياليتنا نراجع أنفسنا و نبذل …من هذا الخلق العظيم …بدون حياء و بدون تقتير…فشأنه عظيمٌ… عظيم ….
أخوتي …هل خرجت عن الموضوع…فها أنا ذا أعود…مدينة بيزل تقترب و الحدود مفتوحة …و كل الذي أعلمه أن الخليجين ليس لهم تأشيرة دخول إلى سويسرا فقد سمح لهم بالعبور…مررت من جانب الشرطي و لم يحرك ساكناً…لا أعلم هل يريد أن أمر …أو أقف… أو اسلم الجواز…مررت من جنبه و أوقف السيارات من بعيد و لم يوقفني…يا إلهي…هل أدخل إلى سويسرا …و إن دخلت كيف أخرج منها و أنا لم أسجل دخولي..ركنت في الموقف القريب…تحدثت معه فلم يعرني اهتماماً….و اشر بيده و كأنه يقول ” اغرب عن وجهي “….و لقد غربت عن وجه و شرقت…و لسويسرا دخلت…و كانت الصدمة أن بيزل لم تكن بمستوى الاسم السويسري….فهي مدينة مررت بها وبسرعة …فهي عبارة عن مباني متراصة و لا تحمل أي لمسة خاصة أو نكهة تدل عليها….خرجت منها بدون أي شعور…هل أعجبتني أو كرهتها؟! ..هل هي جميلة ؟! أو سيئة ؟!…لا أعلم بل هي مدينة لا تحرك في نفسك أي مشاعر….و بعد أن قطعنا بضع كيلوات من تلك المدينة….بدأت لنا الأراضي السويسرية الموعودة…
و سبحان الله لقد تغيرت الأرض في لمحة بصر…فكل المناظر هنا تدل على أنك في أراضي غير الألمانية و أن سويسرا هي أرض الطبيعة ….و الطرق تصعد بك إلى أعلى جبالها في محاولة للتسلق و الوقوف على ارض منبسطة من أراضيها….في الطرقات كانت اللوحات إرشادية تؤشر على بعض المدن الشهيرة…جنيف… زيورخ …بيرن…أنترلاكن… لوزان ….و كانت كل اللوحات تبدو بعيني بشكل واحد لقد كانت أسماء من كتب عنها من خبراء السياحة أو الروائيين في بطون الكتب…هي الأسماء الأشهر و التي تظهر أمامي …حديثهم عنها …و شرحهم الوافي لها …و معرفتهم في كافة مناطقها ….تجعلهم أمام ناظري دائماً…فلما أرى الشلالات أقول في نفسي لعل هذه هي المناظر التي تكلم عنا الخبير السويسري أبو ريان…و لما أمر على بعض القرى المتناثرة و وسطها البقر المنتشرة أتذكر تلك الرسوم البلاغية التي أتحفتنا بها كاتب عن السفر مرموق…أما عندما تمر علي العشرات من المدن و أعجز عن حفظها فأتذكر بعض الرحالة و إلمامهم الكبير بتلك الديار….فحظ الله الباقين و جزء الله الغائبين كل خير على ما أمتعونا به في سالف أيامهم ….اقتربت من جنيف قبيل غروب الشمس…فكانت الجبال تحجب عني المغيب…و الشمس تنزل ببطء غريب…و الظلمة تستعد لأن تريني أرضاً تشاهدها عيني من جديد…طريق بعيد ممتد ينتهي عند ملتقي قرص الشمس…طريق مستقيم في أرض منبسطة…ثم يتعرج و يلتوي حتى يصل إلى قمم جبلية عالية…قرى تعكس نوافذها أشعة الشمس الحمراء..و قرى تسكن فوق تلال الجبال المرتفعة فتكون كنقاط متفرقة….و قرى نخترقها و من صغرها لا نحس بها…
أهل البساتين يعودون من بساتينهم و بأيديهم نتاج ذلك اليوم….و الأبقار تعود إلى حظائرها….خيول في إسطبلاتها تجول و بين سياجها تصول…الناس في أجازة نهاية الأسبوع يتمتعون بإجازة و يقضونها بين مزارعهم…فتجد أطفالهم على دراجاتهم…و كلابهم تلهث من خلفهم… شاب بيده زهرة و بيده الأخرى فتاة أعطاها كل قلبه…بينهما صمت يتحدث…و عيونٌ ترمش بحب…و دفء ينتقل منهم إلى من حولهم… سيارات بألوان مختلفة تخترق تلك الطرق بين القرى المتناثرة ….فتختفي فجأة وسط تلك الدروب الضيقة .
هناك من بعيد مجرى مائي يسيل … كقطرة على صحيفة …يعبر الأراضي بلا خدود… يمتد بلا حدود…فيجتاز كل الحقول …و من فوقه جسر معمور…و من تحت الجسر زورق صغير تسيره مياه النهر برفق و ولين…فيبتعد رويداً رويدا…فيغدوا صغيراً…ثم يختفي بين زرقة النهر و زرقة السماء …كل الأشياء هناك تظهر بهدوء و تختفي بهدوء…كل الأشياء هناك لها ألوان مختلفة متنوعة جذابة…كل الأشياء هناك ساكنة…كل الأشياء هناك تدعوك أن تلقي عليها نظرة…أن تقف معها لحظة…أن تجعلها بالقلب قبلة ….
و على جانبي النهر أرض قد اكتست بالورد…و من جانب الورود ألف منظر و منظر من الشجر الأخضر…شجرة و تحتها أخذت الأرض لباس الجمال و الخضرة …
شجرة عليها طفلة من على غصنها متدلية…فيعبث الهواء بشعرها الذهبي فينشره و تجمعها بيدها و تضعه تحت ربطتها الوردية…فتصبح كصورة لطفلة شعرها هو كشعاع الشمس …ربطتها هي برواز لوحتها…وجهها هو رسمه القمر في سماء منتصف الشهر….أشجار عظام تسكن تحتها أكواخ صغار …مع كل نسمة تتساقط أوراق تلك الشجرة …فكأنها بقدومنا مرحبة مبتسمة… فبتلك الأوراق و مع منظر الأزهار تحس أن الطبيعة تفتح ذراعيها لاستقبالك هناك…
لوحات عجيبة و فريدة…ترسمها الطبيعة هناك…فهذا خلق الله …فسبحان الله العظيم….اجتزت الكثير من الطرق….و مررت بالعشرات من اللوحات..فكانت اللوحة التي كتب عليها جنيف 5 كيلوا…فكيف كانت ليلة الوصول إلى جنيف …للحديث بقية…..مع السلامة أخوتي…إلى اللقاء في الحلقة القادمة في : ليالي جنيف .
في الختام :
لا أعلم كم من شخص ممن تصفحوا موضوعي هذا …قد وصلوا لنهايته…فهو جداً طويل…و لو كنت بمكانكم لما وصلت إلى هذه النقطة…لكن الذي بعثني على هذا هو احساسي بالتقصير و بالتأخير عن التواصل معكم…لذا جعلتها حلقة بحجم عائلي…و اعتذر منكم مرة أخرى أنني من طولها لم أراجعها…فلكم أن تغفروا عني الزلات …و دمتم بخير أحبابي
محبكم / نسيم نجد