اللقطة التاسعة : تأملات في و جوه الألمان
تأملت في و جوه الألمان كثيراً لعلي أجد قواسم مشتركة بيننا و بينهم , و لكن لم تفلح شتى محاولاتي , فهم العكس الحقيقي للجمال العربي , والعكس الحقيقي للتركيبة النفسية العربية والعكس ألانهائي للفوضى العربية , فكل ما يتمناه العربي من الجمال , أو طيب النفس , أو الفوضى لا يمكن أن تجده هناك , فأجسامهم طويلة طولاً فارعاً , كأنك أمام كتلة بشرية متحركة تكاد أن تحجب الأفق , و منكبين عريضين يستقر فوقهما رأس كبير بألوان ليست بالبيضاء أو الحمراء , بل هي خليط نشاز تنكره النفس العربية و لا تميل إليه , و يعلوا ذلك الرأس فروه من الشعر الأبيض , و في أحسن الأحوال الأشقر الفاتح , وإن كان هناك من مشكلة في المظهر فهي مشكلة الشعر الأبيض و النمش الأسود في وجوههم فهم يتضايقون من تلك المشكلتين , و يسعون السعي الحثيث للتخلص منهما أو تقليلهما و لكن بلا فائدة , أما التعابير النفسية فحاولت أن أجد مبرراً لتلك الظلمة ( التكشيرة و البوز الجاهز بسبب و بغير سبب ) التي تعلوا وجوههم , وتلك الطريقة القاسية التي يتعاملون بها مع الزوار فلم أجد مبرر لها , لقد ضننت أنها بسبب إرهاق العمل , فترقبتهم في أوقات الإجازة , و لم يتغير الأسلوب أو الطبع , فالابتسامة قد حرمت عليهم يوم سبتهم و يوم لا يسبتون ( يسبتون = السبت ) , وعندما سألت عن حالهم هل هذا مطبق على الأقليات الوافدة , أو أن تعاملهم مع العالم بأسرة بهذا الشكل , كان الجواب من إنسان عاش معهم 37 سنة و يحمل جنسيتهم , فيقول : أن ضعف الروابط الاجتماعية بينهم أصبح ظاهرة اجتماعية تحتاج لعلاج , فالعواطف مفقودة , و الصلة منقطعة , حتى الحب قلما يغرد في صدورهم إلا نادراً و في حدود ضيقة , بل هناك اعتقاد بينهم أن الحب يأتي بعد الزواج و ليس قبل الزواج , وهذا عكس جميع الدول الأوربية ( أنا لا أخالفهم بل أستغرب من مخالفتهم العرف الأوربي ) يقول أحد الذين استقروا هناك : أنا عشت معهم كل هذه الحقبة الزمنية و لا أملك أي صداقة حقيقية مع إي إنسان منهم , إنهم أناس يحملون كل أصناف الغرابة بكل ما تحمل تلك الكلمة من معنى , لقد صرفوا عواطفهم و حبهم في أربع أشياء رئيسية :
أولاً العمل , ثم النظام , فالجد و الاحترام للعمل من أهم الأشياء في الحياة , و كل إنسان منهم تجده متعمق بلا حدود في تخصصه , و جاهل لدرجة السذاجة في أبسط الأشياء خارج تخصصه , أما النظام فتعتبر ألمانيا من أكثر الدول الأوربية تمسكاً بالنظام , و إتباع التعليمات , حتى أنها صارت سمة يعرفون بها بين الأوربيين , بل و محل تندر منهم , فلا وقت للفوضى , أو تضييع للأوقات , ففي أيام الأسبوع تجدهم مبرمجين ببرنامج حاد , و مقيدين بأوقات محددة للأكل و النوم و الخروج , فمع انتهاء أوقات الدوام يخرج الجميع إلى بيوتهم , و ذلك للاستعداد لوجبة العشاء , و التي يتناولونها بعد غروب الشمس مباشرة , وقلما يرتبطون خلال أيام الأسبوع بارتباطات للعائلة أو للأصدقاء , بمعني لا يوجد جمعة للجماعة , و جمعة للحي وجمعة للأصدقاء و جمعة لزملاء العمل و جمعة للخالات و العمات و الشغالات , ينشر فيها الغسيل و منها الدمع يسيل , وليس في أعرافهم مكان للمجاملة فعندما يدعوك إلى وجبة فهوا يعي ما يقول , فلك أن تقبلها من أول مرة أو تردها , فعندما تردها لا تنتظر منه أن يلزم عليك , فلا تتوقع إنه سوف يحلف عليك أو يطلق زوجته أو يلزم عليك و يقول التسابلة ( تعني غداً ) أو الآبلة ( بعد غد , مصطلحات نجدية) , و عندما تدعوه أنت فتأكد أنه يعتبر هذه دعوة صادقة , فإن كان لدية وقت سوف يجيب دعوتك بالحال ( يعني لا توهق ) , و لا أنسى قصة الدكتور زهير السباعي حينما يقول : أنه دعاني صديق ألماني إلى و جبة عشاء , فكانت عبارة عن بعض الأجبان والعسل و بيضتين , وأحضر العشاء وعندما بدءنا بالعشاء , وضع صديقي الألماني البيضتين أمامه , ثم أتبعها باعتذار أنه متعود أن يأكل يومياً بيضتين , ولا يمكنه أن ينازل عن أين منها لصالح الضيف , ويقول الدكتور تقبلتها بصدر رحب لمعرفتي بأنهم لا يمكن أن يجاملون على حسابه , حتى لو كان شيء بسيط ( لو أنا من الدكتور لأحلف ماأطب بيته , هالألماني ردي النفس , مستخسر بيضة , على أبناء حاتم الطائي ) , وهكذا هم في كل شئون حياتهم فلا مكان للمجاملة , النظام هوا سيد الموقف ( مو مثلنا بعض الناس تحصله يشوف و احد من الجماعة بالسيارة يمشي بسرعة140كلم ثم يتجاوزه بسيارته لكي يؤشر له بأن يتفضل معه , ثم يؤشر السائق الآخر أن شكراً , فيرد بنوع آخر من الإشارات ويشير إلى فمه يعني العشاء معنا , ثم يرفض و هوا بسرعة 140 كم , ولكن لا ييأس فيرد بإشارة أخرى ويضع يده تحت خده بمعنى طيب النوم عندنا و هكذا , أنا لا أدري هل نحن كرماء لهذه الدرجة , أم أننا ندعي الكرم , أم أنها المجاملة القاتلة , أم الأعراف الملزمة , أم أنها الأوقات الغير مقدرة , لا أعرف ولا أريد أن أعرف , لأني أنا سوف أستمر بالتلزيم على الناس بالسيارة والطيارة وفي كل مكان , يالطيبين ليش ما تفضلون معنا ) , نواصل بعد هذا الفاصل , ومن ثم يركن الجميع إلى النوم المبكر , ليستقبلوا يومهم التالي بجد و نشاط , لذلك أغلب المحلات تغلق أبوابها باختفاء الشمس من جهة المغيب , و الويل كل الويل لمن يتجرأ على إزعاج السكان في وقت نحن نعتبره مبكراً , و بعرفهم أنه من منتصف الليل , و هذه مشكلة يواجهها كثير من السياح العرب , الذين اعتادوا أن يقلبوا ليلهم نهاراً و نهارهم ليلاً , فتجد الأطفال في الساحات العامة يلعبون , و الشباب في الطرقات يتسكعون , و النساء مع بعضهم يدردشون , في مشهد يستغرب منه أهل المدينة , و منظر يستنكرونه , و يتأففون منه , وتحل الطامة الكبرى عندما يتجرأ أصحاب الشقق من السياح العرب بإزعاج جيرانهم , فهنا الحل الوحيد هو الاتصال بالشرطة لحل هذه المعضلة , فنتيجة لذالك تعهد بعدم التكرار , و إلا الطرد من الشقة إن تكرر, بل إن بعض أصحاب الشقق يشترطون عدم و جود أطفال مع المستأجر ( يبدو أنهم عارفين ربعنا , لو يأخذون رأيي , كان يسكنون إعييل هالحلال , وش عاد لو كسروا نصف الأثاث , أو ماناموا شهر , أو إضربوا كلبهم بالنعال , الدنيا مهب مطولة لو يتجملون هالعطلة و العطلة الجاية سبحان من يعلم الحي منا أو منهم , بس ماشاورو عاقل ) .
ثانياً الهوايات : فلها النصيب الأوفر من وقتهم , فنهاية الأسبوع هي وقت الراحة ووقت الدعة إلى ممارسة الهوايات , و يصرفون المبالغ الطائلة في سبيلها , و التي تبدو في نظر الآخرين أنها هواية ساذجة , وتجدها لديهم مقدرة و محترمة , أيضا ً إنهم يدخرون من رواتبهم الشهرية مبلغ مقدر لكي يستفيدون منه عند تقاعدهم , فتجده يطوف العالم من شرقه إلى غربه , من أجل أن يمتع بصره , أو يجد شيئاً يستحق المشاهدة , يمر ببلدان لا يمكن أن تذهب إليها حتى بالمجان , و لا أنسى هول المفاجأة عندما كنت ذات مرة بزيارة خاطفة برحلة عمل إلى الهند و بالتحديد إلى ولاية راجستان الهندية , استغربت عندما ركبت الطائرة أن وجدت كل من فيها من الأوربيين و أنا و صديقي الهندي فقط , جال بنفسي أننا سوف نذهب إلى جنة الدنيا , فالأوربيون الذين لم يعجبهم جمال بلادهم لم يذهبوا إلى تلك المناطق سدى . أقلعت الطائرة , وبدأت المناظر الخلابة بالتناقص كلما ابتعدنا عن بمبي , فالأرض بدأت تكشر عن أرضها القاحلة , و ازدادت القرى المتناثرة وشكل عام لا يبعث على التفاؤل و الوضع لا يبشر بخير , لكن لازلت أنتظر الجنة الموعودة , فهؤلاء لا يهرولون عبثاً , نزلنا في تلك المدينة فكانت الشمس حارقة , و النظافة مفقودة , بل إنني رأيت منظراً لم أكن أعتقد أني سوف أراه بحياتي , فتجد الجمل و الخنزير يسيران بجانب بعضهما البعض في منظر يحمل كل المتناقضات , و عند ذلك أدركت أن هؤلاء الأوربيين يهمهم أن يروا شيء جديداً و غريباً وبغض النظر عن ذلك هل هوا ممتع أو سيء , أخشى أن ندخل إلى رحلة الهند , أضن ننهي هذه النقطة , لذا يجب أن ننهي هذه النقطة وإلا سوف أمسك بكم خطاً طويلاً و غريباً.
ثالثاً : تربية الحيوانات : كم تحسد تلك الحيوانات على ما يولونهن من حسن الرعاية و فائض من الكرم , إن حيوانات ألمانيا خاصة الكلب أبن الكلب ( الكائن الوحيد بالعالم الذي تسبه و تقول له ياكلب يأبن الكلب فينبسط , أكيد معلومة جديدة ) لقد رعوه حق الرعاية , فأقاموا له أعياد الميلاد , و المقابر المزخرفة , و أورثوه أموالهم , و أسكنوه الفنادق الفاخرة , وأقاموا له أماكن التسوق الخاصة , و ألبسوه السلاسل الغالية , و أطعموه ما لذا و طاب من الأطعمة , لقد رأيت البسكويت الخاص بالكلاب و التجهيزات المتوفرة لها فأشفقت على كلاب بلدي التي تناضل من أجل البقاء على الحياة في صناديق الزبالة , إن تعاسة حظهم الذي رماهم في عالم لم يقيم للكلب الوفي منزلة مناسبة , و لا مكانة مرموقة , و لو كان عندي من الإمكانيات الشيء الكثير لشحنت مجموعة من الكلاب المحلية , و رميتها عند نهر الراين , لتتمتع بالرعاية الكريمة لهؤلاء الكرماء على الكلاب بكل شيء , البخلاء على بني البشر بأي شيء , حتى الابتسامة البسيطة .
رابعاً : الملذات و الشهوات ففيها يصرف الغالي و الرخيص , و كم تقام من الحفلات الماجنة و السهرات الصاخبة , التي تسكب فيها من الكؤوس وتتمايل فيها الأجسام و الرؤوس , وعندما تريد أن تطلع على ما هم فيه من ضياع فكري فلك أن تتخيل أي شيء فيه لذة جنسية أو أي شي مقرون باللذة و الشهوة لابد أن يكونوا مارسوه و فعلوه بشتى الطرق و الأساليب , إنهم يبحثون عن التجديد و العيش السعيد , و لا يعلمون أنهم في ملذاتهم يغرقون , فلله الحمد الذي عافانا مما ابتلاهم به , و والله إذا أردت أن ترى نعمة الله عليك فشاهد ممارساتهم وظلالهم هناك .
ودمتم برعاية الله
وغداً القريب ألقاكم بمشهد جديد و لقطة أخرى
أخوكم : نسيم نجد
www.naseemnajd.com
روابط بقية الحلقات …