طريق الحياة
في هذا الصباح كل شيء مختلف , و النفس إن ضاقت تلونت الدنيا بألوان قاتمة , الفرحة التي تحملها أختي طوال الأيام الماضية تحس اليوم أن هناك ما ينغصها , بل هناك ما يكدر عليها صفوة صبحها , إنه الرحيل … فاليوم سيرحل زوجها و أخيها إلى مدينة أخرى , و يتركونها في نيروبي هي و أبنائها لوحدهم , إنها غربة وسط غربة , ظلمة في كنف ظلمة , كيف سيكون يومهم إن غاب عنهم صوت الحبيب , ولكن يعزيهم إيمان بالله صادق …فإنهم و إن تركوهم فسوف تحرسهم عين الرحمن التي لا تنام , و يحفظهم اسمه العظيم ….
صبحهم اليوم مختلف , سُلبت من النفس أشيئا كثيرة و كلها أشياء جميلة , الهمة ليست الهمة , و النشاط ليس هو النشاط المعهود , في القلب الهموم و الضيق يصارعان السعادة و الابتسامة , فتارة يغلب الكدر منابع الصفاء في النفس , وتارة أخرى تعلوا السعادة ويبرق نورها , و ذلك عندما يُتذكر أجر الاحتساب عند المرور بمثل هذه المواقف الصعاب .
الطريق إلى مركز المهتديات هو نفسه يتكرر كل الصباح و لكن اليوم له شكل آخر , اليوم سوف يقوم زوج أختي و أخي بتوصيل أختي إلى المركز , ثم ينطلقون إلى رحلتهم إلى عالم مجهول . ركبت أختي بتثاقل عجيب , و ركب أطفالها من بعدها , نوافذ السيارة تنفث الهواء إلى داخل السيارة و كل شيء بداخل السيارة يكاد أن يتطايربفعل الهواء , وحده القلب يكاد يقف , توقفه مشاعر الحزن العميقة .
في وسط جو الوداع المر , صوت أخي و زوج أختي يحاولان أن يرسمان شكلاً آخر من روح المرح و البسمة , لكن أختي تطغى على نبرتها الحزن العميق , و تظهر من خلال صوتها غصة , و بقلبها لوعة , و بأنفاسها زفرة , تحمل هماً و حزناً , وتبحث لنفسها عمن يواسيها فلا تجد إلا نفسها , الأطفال يتجاوبون مع الجو المرسوم ببراءة و لا يعلمون مالذي يدور في الخفاء .
وصلوا المركز , نزلت أختي , نظر إليها زوجها و أخي , فقالا : نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه , لملمت أختي حروفها , أرادت أن تنطق بكلماتها , و لم تستطع أن تنطق إلا بكلمة واحدة , فقالت بصوت خافت : والله يحفظك , هي الكلمة الوحيدة التي زاحمت الغصة بالحلق , فخرجت الكلمة بشق الأنفس , كلمة نطقها قلب زوجة و قلب أخت و قلب أم , فكانت هذه الكلمة هي بداية لسيل من الدموع , تبلل حجابها , قال زوج أختي : قاطعاً لحظات الوداع , لا تقلقي سوف نعود اليوم بإذن الله تعالى إن استطعنا ذلك , عليك بالصغيرات , أهتمي بنفسك , ويشاركه أخي في الحوار لكي يزيح هذا الستار الأسود من الحياة , آه منكم يا نساء تنسون الإخوان عند وداع الأزواج , قالت : حفظكم الله جميعاً بحفظه , تحركت السيارة , و وقفت أختي و أطفالها ينظرون إليها , حتى غابت عن الأبصار , و تعلق القلب بهم حتى تاهت نبضاته المتسارعة وسط زحام , نظرت إلى أطفالها من حولها و حانت منها شهقة , فقالت : الكبرى منهن , ما بكي يا أمي , قالت : لا شي يا أبنتي , فقطع عليهما افتتاح أبواب المركز حديثهما , دخلت الدار و وبدأت حياتها اليومية عبر دروسها التي هي مسلاتها في حزنا , أما أين ذهب أخي و زوج أختي ؟ فهذا أخي يروي القصة كاملة فيقول , أراد زوج أختي أن يصل إلى منطقة بعيدة من المناطق المحتاجة , فنظر كيف يصل إليها ؟ و كيف يلامس جراحها ؟ و كيف يداوي مصابها ؟
فأعيته الحيلة لبعدها عن نيروبي , و كثرة المخاطر التي تحف بها , و لكن من تمسك بحبل من الله متين تنفرج له الأمور ولو بعد حين , وحين يشتد الضيق وتشتد الأمور تنفرج الغمة و تكون الشدائد إلى زوال , فلقد انفرجت بعد أن ظن أن لا مخرج , فذهب إلى أحد شركات الطيران الخاصة , و استأجر منهم طائرة خاصة تقطع به تلك المنطقة , بأدغالها و جبالها و أحراشها , حتى يصل إلى قرية غائرة في وسط الجبال الشاهقة , فوافقت الشركة على الطلب و بمبلغ 500 دولار لمسافة 300 كيلوا قطعوها في خمس ساعات , يقول أخي ركبت أنا و الطيار و زوج أختي , في طائرة صغيرة ذات مراوح نفاثة , ركبنا و أقلعت الطائرة من المدرج , فصرنا بين السماء و الأرض معلقين ..
بل إننا كنا أقرب للموت من الحياة في أحيان كثيرة , مطبات هوائية مرعبة , تحليق على مستوى منخفض , في تلك الرحلة كنا أنا و زوج أختي و الكابتن ومرافق لم يغفل عنا إنه شبح الموت , نجلس في بعض الأحيان على كراسيها الغير مريحة فنمل , و نقف فنتعب , و نتجول فتتقاذفنا الاهتزازات , هي ساعات طوال مرت علينا كأننا في سكرات الموت , معيننا فيها بعد الله هو الذكر و أن الهدف هو سبيل الخير , و ما إن انقضت تلك الساعات و حانت ساعة الهبوط , حتى بدأ الطيار ينظر إلى الأرض فكأنما ظل الطريق أو يبحث له عن شيء بين ركام الأشجار …
لقد كان يبحث له بين الأشجار عن أرض مستوية , ليهبط فيها , فنظر إلى بعيد فوجد مبتغاة , فعزم هو و توكلنا نحن على الله , فهبط بسرعة مخيفة , أثارت كل الأتربة بالمنطقة , ارتطمت الطائرة بالأرض ارتطاما , اعتقدنا أن الطائرة قد تبعثرت أجزاؤها في ذلك المكان , و هاجت عاصفة الأتربة من أطراف الطائرة , لقد خيل إلينا أننا أصبنا في حادث أثناء الهبوط , لحظات ثم توقفت محركات الطائرة , ثم تبدد الغبار إلى أطراف الغابة , فتبسم كابتن الطائرة فقال: لكم أن تنزلوا بسلام , لم نصدق أننا وصلنا و أن أنفاسنا لازالت ترتد إلى أعماقنا , و أن قلوبنا تنبض بالحياة , و ما إن انقضى هم الهبوط , حتى فكرنا أن خلفنا مهمة ومن ثم نعود على نفس هذه الرحلة , و نفس المشوار , و بنفس الطائرة , و أن علينا أن ننهي مهمتنا في نفس اليوم , حتى نعود إلى نيروبي مع هذا القائد , كانت خطواتنا منظمة و محددة , كنا في عمل متصل و لم يمنعنا عناء الرحلة أن ننجز مهمتنا بأسرع وقت , و لقد كانت لحظات جميلة أن تصل إلى أخوتك في بقعة سحيقة , تشاركهم همومهم و تمد يد العون لهم , رغم أنه لحظات قصيرة , لكن لحظات مباركات , فكان العمل المنجز أكبر من المتوقع , كانت عينٌ على مهمتنا و إنجازها , و العين الأخرى على أبنائنا في نيروبي , قضينا الوقت كما رتب لها من قبل , و في الساعة المحددة , عاودنا الإقلاع من جديد , و عاد الهم إلينا و لكن بصورة أقل , فقد أعطتنا رحلة الذهاب جرعة نفسية لمواجهة الأزمات , لقد تمت رحلتهم و عادوا إلى نيروبي عندما حانت الشمس إلى المغيب , أنا في هذه اللحظة , أقف متعجباً من تلك النفوس التي لا يقف أمامها حائل , و لا يردها عن إيصال رسالتها أي عارض , و لكم تمنيت كثيراً أن تكون نفسي هناك , فاسأل الله أن يمن علي بركوب مركب الدعاة , كما ركبها هؤلاء الدعاة , أما الطرف الآخر ممن يجوبون أراضي أفريقيا , فهم خدام الصليب , الذين سبقوا خدام التوحيد بالتواجد في تلك الأرض , لكن هل تثمر أشجار من يخطو خطوات في محاربة الجبار ؟ , أم هل تخيب مساعي من يسنده العزيز الرحمن ؟ إنهم يقفون عاجزين أمام المد الإسلامي , فهذه الكنائس هناك تقف عاجزة عن الوصول إلى القلوب رغم أنها وصلت إلى البطون ..
فما أن تنتهي المجاعة حتى يعودون فرادات و وحدانا إلى طريق الإسلام , بل رغم أن الجهود ضعيفة بالمقارنة بإمكانيات التنصير , فإن ما يعمل بسنوات هناك تحت ظل الصليب , يُعمل بأيام تحت راية الدعاة من المخلصين من المسلمين من أبناء التوحيد , فلكم جابت حملة الصليب السنوات الطوال قرى متناثرة في غابات إفريقيا لإبلاغ رسالة الظلال , فتعود خاسرة , و بينما تمر سحائب الرحمن على تلك القرى في أيام و تدخل القرية بيوم وليلة تحت ظلال الإيمان , وتمتلك النصارى الدهشة , يتساءلون كيف يكون ذك و كيف تسحر العقول بهذا السرعة العجيبة ؟! فلا عجب , إنه سحر القلوب و نفحات الإيمان التي تباركها بركة الرحمن , و هذا العجز الذي تجده الكنيسة في دعوتها , لم يكن في أفريقيا فقط بل في كل مكان في العالم , قال قسيس ألماني في أحد مساجد بون , وذلك عندما كنت هناك نقلها لي أحد الدعاة في مدينة بون , لا أعلم مالذي تفعلونه بأبنائكم حتى يأتوا إلى المسجد في اليوم خمس مرات , و لقد زرت مساجدكم و لم أجد ما يرغبهم بالحضور أو يجذبهم للحفاظ عليها بهذا الشكل الذي يدعوا للدهشة , فنحن صلاتنا في الأسبوع مرة , و عملنا جميع المرغبات للشباب فلم نستطع أن نجعلهم يزوروا الكنائس , إنه أمر يحيرني , و رغم ذلك أهنئكم به , وهذا الحدث نفسه يتكرر في كل أرجاء العالم بل تجده بصورة واضحة في أفريقيا, فمليارات الدولارات تصرف على التبشير , أدوية و أطعمة و تعليم و تنصير , و بنفحة من نفحات هذا الدين تنطفئ شمعة التنصير , و تشرق شمس التوحيد , وهذا الذي يحير من كان هناك من المنصرين , الذين يعملون السنوات , و بمجرد مرور دعاة التوحيد تسقط لبنات بنائهم على رؤوسهم في لحظات , فكم بذلوا لينصروا قرية أو مكان بعيد في غابة , و تمر قوافل الخير فتبشر بالخير و تسلم القرية عن بكرة أبيها , و إن كانت تلك القرية كافرة فيدخلون في الإسلام , و ينظمون تحت لواء الإسلام , وقد حافظوا على أركان هذا الدين كمن أمضى عمره كله بين جنباته , ومن كانت أثرت عليه حملاتهم , تجدهم يعودون أكثر تمسكاً من قبل , إنه أمر يعجبون منه بل لا يصدقونه , و لم يكن يتحقق ذلك لولا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه , بذلوا أنفسهم و أوقاتهم و أموالهم لخدمة هذا الدين , يقول زوج أختي , كنا في رحلة دعوية في أرض نائية في دولة افريقية , و أخذ منا المسير أيام , قطعنا فيها مهالك , و تعرضنا فيها للموت مرات , و صرنا في عداد المفقودين لولا أن حفظنا الله بحفظة , و لما بانت لنا القرية المقصودة كنت الشمس تقترب إلى المغيب , و قد بلغ منا التعب مبلغه , و نزل بنا الوهن حتى أعجزنا عن المسير , فنزلنا قريباً من القرية , فقال أحد الدعاة لعلكم تأخذونا قسطاً من الراحة , و أذهب أنا و استكشف القرية , فيقول : تبسم أحد الأخوة من قوله , فقال : و لِما تتبسم , قال : لقد تركنا أهلنا و أبنائنا و ديارنا , و أتينا إلى هنا من أجل أن نأخذ قسطاً من الراحة ؟! هل قطعنا كل هذه المسافات حتى نركن إلى الدعة ؟! لا و الله لن نتركك تستأثر بالأجر من بيننا , و إن كنا نحبك , و لكن في أمور الدعوة لا يمكن أن نقدمك على أنفسنا , بل نذهب سوياً نستطلع و نستكشف , بل نبدأ بالدعوة من الآن , فربما أنقذنا أحداً من القرية قبل أن يأتي يومه , فذهبوا جميعاً و وصلوا إلى القرية و بدأ برنامجهم هناك , فيا الله يالها من نفوس قد فسخت لباس الدنيا و أقبلت على الآخرة , و يالهم من فتية طلقوا المتاع و استمتعوا بالامتع , و يال نفوس يحملونها بين أضلعهم كيف تستحمل كل هذا التعب و النصب , فقد تعلم الصبر منهم دروساَ جديدة , و مل التعب من تتبعهم خلال طرقات الدعوة , كانت أيديهم تمتد إلى كل فقير , و وجوههم تتبسم في وجه كل حزين , و كلماتهم تمسح دموع كل مكلوم , هم كالمطر كله خير أوله خير و أوسطه خير و آخره خير , يمرون فيزرعون بذور التوحيد في مجاهل أفريقيا , فتنبت شجراً صالحاً جذوره تضرب في أعماق الأرض , و أوراقه يستظل بها من حر الفتن , و ثماره تغذي النفوس في المحن , فجزاهم الله ألف خير على جهودهم , و بارك الله في جهودهم , و لولا مخافة أن يصيبكم الملل لما توقفت عن ذكر المواقف , لكن هي كلمات كتبتها , لأعرض وجهاً نيراً , من وجوه أبناء هذا الدين , و ألقاكم في الحلقة القادمة وهي الحلقة الأخيرة , دمتم بخير
نسيم نجد
www.naseemnajd.com
روابط بقية الحلقات….