أول ليلة في نيروبي
أخذت السيارة منحنيات المدينة , باحثة عن كوخ يقطن في بعض المرتفعات المطلة , بعد فترة توقفت السيارة فانتشر الغبار الذي كان يسابق السيارة في المحيط…
توقفت , أمام كوخ صغير , هو مسكنهم الجديد , نزل الجميع من السيارة , وتتابعهم نظرات الجيران و المارة , و عيونهم تنظر وباستغراب إلى هؤلاء الغرباء الذي حلو عليهم مع المساء
, الأطفال لم تنفك عنهم علامات التعجب و الدهشة رغم أثرالتعب و قلة النوم في الرحلة الطويلة , دلفوا باب بيتهم , غرفتين صغيرتين , صالة , مطبخ يحمل الاسم فقط , أغراض بسيطة , أثاث قديم , مفارش مهترية , نوافذ ضيقة تطل على المدينة , حمام بدائي بسيط , كل شيء يحمل أقل القليل من اسمه .
منذ الخطوة الأولى لدخول الكوخ , تفرق الأطفال ليطلعوا على أطراف بيتهم الذي سيسكنون فيه , ذهبوا ثم عادوا بأسئلة كثيرة غزيرة , مختلفة و متنوعة , و تجتمع في سؤال بريء , كيف سنعيش هنا ؟ فكان الجواب واحد , بل هو جواب مقنع و محبب لهم , قالت الأم: نحن هنا قد قدِمنا للدعوة , و من قدم للدعوة يجب أن يتحمل ظروفها و تبعاتها , و أن يعيش المرء عيشة بسيطة , يجب أن نحس بمعاناة إخوتنا حتى نستطيع أن نتلمس احتياجاتهم , يجب أن تكون يدك معهم في النار حتى تفهم ظروفهم , فنحن تركنا كل حطام الدنيا من أجل إخواننا , فيجب أن نصبر و نستحمل كل الذي يلاقينا , هز الصغار رؤوسهم , معلنين موافقتهم , عن كل ماقيل و يجهلون أغلبه , و لكن يحبون شيئاً واحداً ولم يدخلوا غماره حتى الآن , بل كانوا يستعدون له منذ شهور , وهو الوقوف مع الضعفاء و مد يد العون للمسلمين , و يسميه أهلهم باسم ” الدعوة ” , بل وصلوا لقناعة أنهم يجب أن يستحمل الصعاب من أجل أن يدخل من هذا الباب , فهم لا يمانعون بأي شيء يقدمونه من أجل هذا الهدف , قطع حديثهم و تأملاتهم , صوت الأب و هو ينادي بأن تفضلوا على وجبة العشاء التي أعددتها لكم , وجبة بسيطة تسد جوعتهم حتى يستطيعوا أن يذهبوا للنوم و بدون أن يقض مضاجعهم زائر الجوع , وضعت تلك الوجبة بصحون متفرقة , ليأخذ كل واحد نصيبه منها , أكلوا أكلة الكفاف , فارتخت جفونهم على عيونهم من التعب منهية يوماً مضني من السفر , و بادئة يوم جديد من رحلتهم , ذهبت بهم الأم إلى فرشهم , و التي غطيت بناموسية كبيرة لتقيهم لذعات البعوض المنتشر و بكثرة , فهي قد أتخذ من الكوخ سكناً له و عزم أن يجاورهم , بل لم ينسى واجبه مع زائريه الجدد فأخذ يرحب بهم عبر أزيز بسيط و مزعج . حصنتهم بالأذكار بعد أن حصنتهم من قبل بعلاجات تدفع بإذن الله تعالى عنهم مرض الملاريا المنتشر و بقوة في تلك البقاع , أغلقت باب غرفتهم و الدعوات تحفهم بأن الله يحفظهم .
في صالة صغيرة جلس أخي و أختي و زوجها يتحدثون عن الدعوة و تقبل الناس لها هناك , بل و اشتياقهم للتلقي من الدعاة , و طلب المعرفة من أهل الجزيرة بالتحديد , و تعلقهم بهم , و وصفهم بأنهم أحفاد الصحابة , و أنهم قادمون من منبع الرسالة و من أرض الحرمين , وكيف أنهم يأخذون عنهم كل ما يقولون بيقين و بتسليم مطلق , و كيف أن هذه النظرة تسهل الكثير من انتشال البدع عندهم بأقل مجهود , أو تحفز المهتدين الجدد لتلقي الدين من أهله , فأخذ زوج أختي يقص القصص الدعوية , و ما يلاقونه من المصاعب في سبيل هذا الدين , و كان حديثه حديث عاشق لا يمل من ذكر محبوبته , و لا يكل من تعداد محاسنها , أخذت تلك الجرعة الإيمانية تجري في أجساد أخوتي مجرى الدم في الجسد , فكانت بلسم من داء النصب و التعب الذي أصابهم من السفر , فوثب الحماس مرة أخرى في عيونهم , بل إنهم ليقولون في أنفسهم إنه لليلٌ طويل الذي ننتظره , حتى تشرق الشمس فنخرج لنبدأ أول خطوات الأمل .
حط النوم رحاله بينهم , فاستأذن أخي لينام في زاوية من زوايا الصالة , و ذهب زوج أختي لغرفته الصغيرة , و التي هي عبارة عن أرض وسقف و فراش ممدود في أحد الأركان , و ذهبت أختي إلى بنياتها في غرفتهم لتلقي عليهم نظرة أخيرة قبل النوم , فتحت باب الغرفة , فإذا هم غرقى في سباتهم , و يتقلبون طلباً لما يبعد الحر عنهم , فلا يجدونه مجيباً لتقلبهم , و يحكون أطرافهم لتخفيف ألم لسعات البعوض لهم , و التي قد تسللت إليهم عبر ثقوب صغيرة في ناموسيات النوم , نظرت الأم إلى أطفالها , وهم في فرشهم البسيطة و تحت شاش أبيض يصد بعض الناموس الزائر , و ما ينفذ عبر الثقوب أكثر , حولت النظر إلى أطراف الغرفة البسيطة , فرغم بساطتها فقد أحست أنها كبيرة , لخلوها من أي نوع بسيط من الأثاث , فتذكرت بيتها الذي خرجت منه و تركته , بيت واسع , فناء كبير , غرف متعددة , وسائل للتبريد و التدفئة , أثاث فاخر , وسائل الترفيه التي وضعت في زوايا البيت , بل أعظم منها أن تركت عشها الآمن , و موطنها الذي ألفته , و أهلها الذين سكن قلبها بينهم , تركت كل ذلك و عيناها تطمحان بأعظم , و تطمعان بأتم , و تأملان بأكرم من رب عظيم كريم , قطع تفكيرها , اهتزاز لمبة الغرفة الخافتة , التي عبثت بها نسمات الهواء القادمة من النافذة , فصارت أشعتها تتأرجح على الحيطان , تقدمت خطوات إلى النافذة لتغلقها , نظرت إلى نيروبي في ليلها ,
سواد داكن يغطي جميع أجزاء العاصمة , هناك تحس أنك في ليل دامس , السماء سوداء , والسحب قد غطت كل شعاع , فلا السماء مزدانة بالنجوم , و لا القمر ظاهر للعيون , و البيوت التي تغطي الأرض تبين من خلالها أشعة الأنوار الهاربة عبر نوافذها الصغيرة , ومع الوقت تنطفئ بعض أنوار البيوت فتزيد رقعة الظلام في الأرض .
سحبت قطعة قماش بسيطة هي عبارة عن ستارة على نافذة غرفة بناتها , سحبتها فسحبت معها يوم كامل ملئ بالأحداث , سحبتها اليوم في نيروبي , و كانت بالأمس قد سحبتها في الرياض , سحبتها و هي تنتظر و بشوق لغدٍ جديد كانت تحلم به منذ أمد بعيد , الآن لم يتبقى عليه إلا أن تشرق الشمس , فتبدأ هي بنشر أشعة الدعوة بين أطراف تلك المدينة , تابعت خطواتها للخروج من غرفة بناتها , أغلقت الأنوار عليهم فاختفت نافذة مضيئة من غرف نيروبي , فحل سواد عظيم في الأرجاء هو أشد سواد من سواد القارة السوداء , و لم يبقى في داخل تلك الغرفة , إلا تأوهات الأطفال من التعب و و صوت أزيز البعوض الذي أخذ يرتع بأطفال غافلين . لم يكن ليل تلك الليلة طويل , فالتعب قد أنهكهم , و جعلهم يغرقون في نوم عميق ,
تابعونا في الحلقة القادمة و أول يوم من أيام الدعوة إلى الله ( مركز المهتديات الجدد )
نسيم نجد
www.naseemnajd.com
روابط بقية الحلقات….