خواطر سياحية : جاري (الغثيث) في الطائرة
قبل البدء : أي تشابه بين القصص المذكورة في هذه السطور و قصص وأسماء في واقع الحياة فإنما هو من محض الصدفة وتشابه أحداث.
** لدي طقوس خاصة في ركوب الطائرة حيث أنني حريص أن أسبق جميع الركاب لركوب الطائرة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً, وذلك من أجل أن أمارس هواية محببة لنفسي, حيث أقعد على كرسيي المخصص وأبدأ بتمعن وجوه المارة وأتوقع من سوف يكون بجانبي, وأحب وأكره,فآمل وأتأمل, وأفرح وأحزن, أفرح عندما يتعدى أحد الراكب مقعدي لأنه لا يوجد تآلف بين نفسي ونفسه من خلال تفرسي في وجهه, و أحزن لأن غيره قد فات ولم يكن لي نصيب منه لوجود أثر عميق حطته قسمات وجهه في أرض قلبي.
هناك صيد قادم, أحد الركاب يكاد يسد الأفق من حجمه الضخم وفي يديه حقائب يجرها بقوة, مرة تسير بشكل سليم ومرة تعلق بالمقاعد أو بأرجل الركاب في الطائرة, من يشاهد تثاقل سير الحقائب يجزم أنها مستعصية عليه لا تريد مرافقته, هذا الرجل ليس في نفسي عليه ألفة ولا جفوة,لا قبول ولا إعراض, لا حب وإنكار, فاحتار فيه قلبي ولكن برغم ذلك لم أبالي, لأن خلفه جيش عرمرم من مختلف الأحجام هؤلاء هم فريق أفراد أسرته, فأيقنت أنه لن يركب بجانبي, ولن يضعه النصيب (الحلو – المر)بجانبي, مر من عندي بسرعة البرق ثم عاد إلي وتبسم في وجهي وكأنه يعرفني منذ ولدتني أمي وقال مرحباً بك أنا سوف أكون جارك في المقعد, وسوف أوزع أبنائي على المقاعد ثم أعود إليك بسرعة, ولم يعطني فرصة للترحيب به, فقد أنطلق مع حاشيته يوزعهم في مقدمة الطائرة ومؤخرتها.
رجع وحشر نفسه في المقعد الذي ضاق عليه, واستخرج حزام الأمان الذي نساه تحته فقيد نفسه أكثر وأكثر, و وجه هواء التكييف عليه و تنفس الصعداء, وبادرني بقوله : إنها شركة طيران تعيسة, ومخيسة, وخسيسة, من لا يحترم كافة طبقات العملاء فمصيرهم الفشل, ومن لا يهتم براحة الركاب فهم إلى زوال في أقرب الأوقات, فلما لم يجد مني رداً يشفي غليله أو بمعنى أصح لم يعطني الوقت للرد عليه, نفخ نفخة وتأفف ثم حوقل فقال: نحن الذين نبني الفشل بصمتنا, فكأنه يعني صمته (أعقب هذا أولها).
استخرج كل الصحف والنشرات والمجلات التي في جيب المقعد الذي أمامه, ثم وضعها في حجره, فتساقطت واحده تلو الأخرى تحت أقدامه وقبض على الصحيفة في اللحظة الأخيرة, وفتح الصحيفة من وسطها حيث صفحة الرياضة, فتحها بشكل جعل يديه تشكل زاوية منفرجة أولها من اليمين بجانب خشمي وطرفها الآخر من اليسار بذقن جاره الأيسر, فتمتم تمتمات على الفريق الفلاني والمدرب العلاني, ثم أغلق الصحيفة على صوت المذيع الداخلي بالاستعداد للإقلاع.
صوت لأفراد عائلته أن أربطوا أحزمة الأمان بإحكام, ثم ألتفت علي وقال: هل تعلم أن هذه الشركة قد نالت أدنى درجة في مستوى الأمان من بين كل شركات الطيران في العالم (قلت في نفسي: مرحباً بصديقي الصدوق) وبدأ يسرد تاريخها الحافل بالحوادث, ويذكر مواقف تشيب لها الولدان. والغريب أن بين كل قصة وقصة يضحك بنشوة, فكأنه فرح بقصص الفشل والكوارث, ثم عقب قائلاً: على الأقل أنت حظك أزين من حظي أنت (نصلة) لوحدك وأنا مع كامل أفراد أسرتي فإن حصل حادث فسوف تنقرض كامل قبيلتي الصغيرة.
استقرت الطائرة في السماء وأضاءت لمبات تحرير حزام الأمان, فألتفت لأم العيال فقال عليكم الأمان, دعي الأولاد يسرحون ويمرحون وينطلقوا في كل مكان, وإياك إياك أن ينام أي فرد من الصغار فالبطون جائعة, والمآكل والمشارب قادمة, والعربيات بدأت بحركتها المعتادة, , أم العيال كانت في حال غير ذاك الحال, فهي مشغولة بطفل بحجرها, وآخر ممسك بيدها, وثالث يتعارك مع أخيه بجانبها..أسكت يا إبراهيم وأترك شعر خلود ياحمود, وأرضع يافهود وقم يا صلوح, وأقعد يامملوح.
بالفعل فقد صدق حدس الأب الرءوف بأبنائه فإنما هي فترة فقدمت العربة بكامل محتوياتها, فأخذ منها الزاد وزاد, وطلب (تشكن ولحم وفيش) فكيف لا وكل شيء باعتقاده ليس ببلاش, نادى على المحروسة فقال بصوت عالي خذي يا أم عيالي .. خذي ولا تبالي.. إنما هو بحر مالي, كلي الرطب واليابس وخذي في الحقيبة المعلب من المآكل والمشارب , واطلبي وتشرطي, فإنما أمامك أيام عجاف لهولها سوف يذهب عن عينيك المنام.
التهم المحتوى قبل أن تغادر العربة مقعده, ثم قال : أكلكم لذيذ فهل تتكرمين بعصير آخر لعلي من سكرة الأكل أفيق, فرشف رشفة ثم نظر نظرة ثم ضغط زر مناداة النادلة الذي فوق رأسه, فهي لحظات حتى كانت بين يديه النادلة فقالت له تفضل ماذا تريد؟ فقال: هل تتكرمين بمشروب ساخن من القهوة لعله يذهب حلاوة العصير البارد الذي لا زال في حلقي طعمه. وعندما قفلت المضيفة عائدة قال: هذا الغزال الذي يمر بين المقاعد باتزان وليس كما لدى بعض البلدان حاملات أثقال, ثم ألتفت إلى الوراء وصوت لزوجته وقال : هيه ..ياهيه أنظري لمن مر من عندنا وعبر, فلماذا يا امرأة لا نعتبر؟!
نظر بطرف عينه إلي فكأنه تفرغ لي فقال: من أي البلدان أنت, ومن أي القبائل ترجع, وأين تعمل, وأين تذهب وماذا تصنع؟ أردت أن أجيب لأقطع وقت الرحلة الطويل, ولكن العجيب أنه ألتفت إلى الخلف وقال للزوجة المسكينة: هبطي (التسلاب) فالطائرة بدأت من لعبهم تهتز وترتج. ثم عاد بوجهه إلي فغير الموضوع فكأن من هناك من يعبث بريموت قنوات لسانه فقال : حمقى هم الذين يذهبون بدون زوجاتهم لبلاد الغرب, ونواياهم فيها شبهة, ومظنة, وسوء نية؟ (فقلت ياله من نذل فكأنه يعنني بمثل هذا النقل), ثم أردف وقال إلا القليل منهم, فسيماهم في وجوههم وأظنك أنت منهم.
وأثناء حديثه معي رمى بجسمه علي, فأستأذن عندما وقع رأسه بين يدي فقال: هل تسمح أن أطل مع النافذة, لعلي أتعرف إلى أين وصل بنا المسير, ثم سأل سؤال, فقال أين وصل بنا الطيار, فقلت وهل تعتقد أنني جهاز ملاحة أو رائد فضاء أعرف من السماء الأماكن, فقال: إن الأرض واضحة للعارفين المطلعين, ويجهلها من به جهل عظيم (قلت في نفسي تباً له يزيد بكسر الحواجز عساه للكسر العاجل).
ثم ألتفت على (المدم) وقال أعطينا من المقسوم ماننشط به الضروس والسنون. أعطينا المكسرات نتسلى حتى تنقضي الساعات, فأخذ من الحب, والفستق, والبندق, والحمص يقرضه قرضاً ثم ينفثه أرضاً, ويلتفت إلي حيناً وإلى جاره الآخر حيناً فيقول هل تريد أن تتسلى ولم يتحرى جواباً فقد أكمل وقال : أم أنتم في حمية تخافون من المكسرات والسمنة. فقال إن المزاج يعتدل عندما تجعل التلفاز يعمل, ففتح الجهاز و وضع السماعات في أذنيه وشاهد القنوات وأعجبه من القنوات قناة للرسوم المتحركات, فأنسجم معها ومن الضحك أنعدم..فقهقه واهتزت من هول ضحكات أشداقه وأكتافه وبطنه.
وعندما أقترب وقت الهبوط كان الذي تحت أقدامه كأنها حظيرة أبقار, فيه بعض صحف ومجلات, وبقايا مكسرات, ومناديل وأحذية, وحقائب مبعثرات, لملم أغراضه وودعني بابتسامة, ثم جمع أولاده, وقال لقد كانت رحلة بجانبك ممتعة سعيدة.
أيها القوم : من أبتلي بمثل هذا الرجل في رحلة طويلة فإن مثله يقرب الأجل, ويزيد في الأجر, ويجعل المرء يكره السفر, فالصبر وليس غير الصبر في مثل هذا الأمر من حل.