شلالات كريمل في النمسا
في صبيحة هذا اليوم , كان الجو متغيراً عن سابقه من الأيام , فالسحب تغطي السماء , و الجو يميل إلى البرودة , و ينذر بيوم ممطر , فكانت مفاجأة لي أن يكون الجو بهذا الشكل , و أن يكون غائم لهذه الدرجة …
فاليوم موعدي مع شلالات كارميل , وهناك المنظر يأخذ جماله عندما تكون الأجواء مشمسة , فمع الرذاذ المتساقط من الشلالات , والأشعة الدافئة من الشمس الساطعة , تحس بجو بهيج , بل ترسم السماء أحلى لوحاتها , وهي لوحة ألوان الطيف …
رغم ذلك لم يثنيني هذا التقلب و التغير بالطقس أن أغير برنامجي ( الواحد لازم يصير عند كلمته ) , نزلت من المصعد فقابلتني عجوزي الحسناء , و بشرتها خاليه من الصفاء , و ضحكتها لامعة من الدهاء , و قلت لها قبل أن أتورط بحديث طويل معها , اليوم سوف تكون المغادرة …
و سوف أسلم الغرف هذا اليوم , نظرت إلي بحسرة ,ثم تنهدت طويلاً من الحزن , و تنهدت طويلاً أنا من الفرح . تناولت إفطاري , سلمت غرفتي . أحمل بيدي ترامس القهوة و الشاي … دفعت باب الفندق الخارجي , ثم أطلقته من يدي ,ف سمعت صوته المتأرجح خلفي , نظرت إلى الوراء وبدون سبب ,و لا أعلم لماذا أنظر دائماً إلى الوراء , و كل الوراء الذي أنظر إليه يبعث في نفسي الأحزان . استقر الباب من تأرجحه , فكأنما قلبت تلك التأرجحات صفحات ذكرياتي التي أمضيتها هنا , و مع أول خطوة خارج الفندق سقطت بعض قطرات المطر من السماء فسارعت بخطواتي نحو السيارة , فكأني خشيت أن تبلل تلك القطرات دفتر حياتي , و أن يسيل حبر أيامي , و تأخذها طرقات الحياة , حتى تصب في نهر النسيان , فأكون فاقد للحظات من عمر ي جميلة…
برنامجي محمل هذا اليوم بثلاث أشياء , من أولوياتها أن ألقي نظرة الوداع على بحيرتي الصغيرة قبل أن أرحل عن قريتي..
فقررت أن أذهب إليها مشياً برقم القطرات, فمن بين طرقات المدينة الضيقة , و من خلال مبانيها المزدانة بالزهور , كانت خطواتي واسعة , و لها صوت ينتشر عبر الصمت الذي ينشره الصبح الباكر على المدينة , و التي لازالت تغط بسباتها العميق بعد ليلها الطويل , فهي تبيت ليلها مع نهارها إذ لم تسطع أشعة شمسها …
وصلت إلى البحيرة , فكانت ساكنه , كطفلة بريئة نائمة , كنت أنظر إلى بعض المارة و هم يتحدثون , فقلت في نفسي ليتهم يسكتون , حتى لا ترمش طفلتي بعينيها الساكنتين فزعاً , و كنت أنظر إلى أصحاب القوارب , فيزعجني أنهم يخوضون عبر سكونها …
وقفت أنظر من بعيد إلى الجبال التي كانت بالأمس منيرة بنور الشمس أجدها اليوم متلثمة بقطع السحب …
منظر يصيب النفس بالعجب , بحيرة زرقاء , جبل أخضر , ثم سحاب و ضباب , يقسم الجبل إلى قسمين أسفله مخضر و أعلاه مخضر , و يحاط بسوار من بياض من سحاب , لا يستقر و لا يهدأ …
و عند اليمين و اليسار من أطراف الأرض , تحس بأن الصفاء و النقاء من مكونات الطبيعة متصلة و متعانقة , سماؤها مع سحبها , و أنهارها مع بحيراتها ….
في تلك البحيرة , رميت كل كلمات الجمال , و قذفت كل كلمات الحسن , و أغرقت كل كلمات الإعجاب , لأني لن أستخدمها مرة أخرى , فهي من يستحقها و سوف أجعلها تحتضنها و تنام على نغماتها , نومة هادئة…
و عندما أعود مرة أخرى سوف أبحث عنها في قيعانها , فحتماً سأجدها , و ستكون أجمل . رفعت أقدامي بهدوء , و تركتها تنام بسكون , وكل الذي أخاف منه أن يزعجها خفقات قلبي المتسارعة , فتوقظها , أو أنفاسي المتطايرة , فتزعجها , و دعتها بنظرات , و اختزلت لها الكثير من الذكريات , رفعت يدي لألوح لها , فلوحت رموشي قبل يدي..ولم يوقف رمش العيون إلا بعض دمع الفراق …
فإلى اللقاء ياطفلتي الناعسة , أخذتني شوارع المدينة و دروبها عبر ممراتها الضيقة , و ممراتها تلعب معي لعبة التيه , لتنسيني لعبة الحب , و لكن هل من فقد عقله, يفقد حبها.. حتماً لا …
بعد أن طال انتظار أهل المدينة لشمسهم المتأخرة , فلم يطيقوا صبراً على هجر قريتهم , و لم يهدأ بالهم لتأخر إطلالتها عليهم , فقرروا أن يفتحوا أعينهم عبر نوافهم قبل شروق الشمس المختبئة خلف قطع الغيوم , فأخذوا يتسابقون للنظر إلى قريتهم و بحيرتهم عبر نوافذهم , ففي لحظة صارت نوافذ أكواخ المدينة كلها مفتحة معلنة بداية يوم جميلة . ومن يتأمل تلك النوافذ يجدها تحمل زهور جميلة , تزيد من جمال منظر تلك النوافذ التي صنعت بطريقة رائعة فردية , فسياج حديدي ناعم , ومن خلفه نافذة خشبية رقيقة , ومن ثم ستارة قماشية فاخرة ترفرف بها النسمات العليلة , و أصحاب تلك الأكواخ يروون أزهارهم بالماء بعد أن أروتهم بشذاها , فكل نافذة تحمل منظر جميل لوحدها …
ورود ملونة تنشر العطر , طفلة صغيرة تطل فتسحر , فراش يتطاير فيختلط بألوانه مع أنواع الزهور المتنوعة , ومن حولها نحل يبحث عن رحيقه المخبئ , فهنيئاً للنوافذ بهذا الجمال , و هنيئاَ للأكواخ بهذه القرية الصغيرة , و هنيئاً للقرية بهذه البحيرة , و هنيئاً للبحيرة بتلك السحب و الأنهار , و هنيئاً لي بهم جميعاً …
هنيئاً لعشاق الطبيعة بزيلامسي , و إلى اللقاء مع غيري من العشاق , فأنتي الوحيدة التي تطيب نفوس محبيها بأن يتقرب الناس كلهم إليها , إلى لقاء و لو بعد حين , إلى لقاء نُحمله مخزونٌ من الاشتياق , فهل يصبر على حمله القلب , أو نصبر على فراق حبيبة القلب , إلى اللقاء بحيرتي …
بعد البحيرة , هربت من مدينتي إليها , هربت إلى جبالها لكي أطل عليها من أطرافها و أعالي قممها …
و لكي أودع المطل , و أنظر إلى المدينة نظرت شاملة , خرجت من جهة جديدة من أطراف المدينة , لكي ألقي تحيتي الأخيرة , و نظرتي الأخيرة , و كلمة الوداع الأخيرة …
في الطريق كانت حبات المطر تتساقط على زجاج سيارتي الأمامية , وماسحات الماء تزيلها بنعومة , .فكأن تلك القطرات أرادت أن تطل علينا عبر زجاجتي لتودعنا …
و كأن ماسحات سيارتي أرادت أن تلوح بكلتا يديها عبر حركتها الدائمة , أما السحب فقد هبطت لتلاطفنا , و تشاهدنا , و تتابعنا …
و نحن والسحب في رفقة , فهي ترافقنا عبر الطرق الملتوية , فهي مرة تسبقنا و مرة نسبقها , و مرة تتابعنا فتقطر دمعاتها علينا , و نراقبها بعيوننا و نخاف أن نفقدها …
هناك السحب مختلفة , فهناك العالية التي تكاد أن تكون قطعة من السماء , وهناك السوداء الداكنة , و هناك البيضاء الشفافة , و هناك المتدرجة بألوان مختلفة من البياض إلى الزرقة , فعندما تشاهد تلك السحب فكأنك تشاهد قلوب الناس باختلافها و تنوعها , فأسأل الله أن تكون قلوبنا بيضاء شفافة ناصعة نقية …
عندما تشاهد المدينة من أعلى بمناظرها الطبيعية و شوارعها الملتوية , فكأنها ورقة خضراء , عبثت بها يد طفل بخطوط سوداء . في تلك الأرض يجتمع اللون الأخضر للطبيعة , و اللون الأسود لطرقات …
فوضع الله سبحانه وتعالى في الأرض أكثر الألوان باعثاً في النفس السرور وهو اللون الأخضر , و وضع الإنسان رسم يده من أكثر الألوان باعثاً على الحزن , و هو اللون الأسود . عندما تشاهد تلك البقعة من أعلى تشاهد البساطة و الإبداع عبر أكواخ اختارت أركان متفرقة من تلك الجبال …
بل و اختارت بساطها الذي تريد , إما على بساط أخضر فاتح , أو بساط أخضر داكن , و منها من اختار الأعالي , و منها من اختار القيعان , أو أطرف الأنهار …
ضع في مخيلتك أجمل صورة , وارسم بيدك أجمل لوحة , و ابحث بين لقطات المصورين فاختر أجمل لقطة , فهناك الطبيعة أكمل من كل صورة , و أجمل من كل لوحة مرسومة …
و من المشاهد التي قلما أن تشاهدها في مكان آخر , هو أنك تشاهد كروية الأرض عبر امتداد و انبساط أراضيها و تكورها , وعندما تطل على المدينة , تسبح في بحر من الألوان , البحيرة و النهر و السماء يجمعها اللون الأزرق …
الأرض المعشبة , والأشجار المورقة و يجمعها الخضرة الساحرة , هذه الأرض الخضراء مختلفة فمنها من مرت عليه سكاكين الحاصدات فشذبت أطرافها فأصبحت بلون فاتح , و غيرها قد أكتمل عمره فصار ألعوبة بيد النسمات…
والزهو و الورود تحمل ألوان متفرقة تزين الزرقة و الخضرة , وهي تبحث عن أي مكان لم تطأه قدم , أو لم ينبت به غصن شجر , أو ينزرع فيه قطعة عشب , فتتخذها الورود فرصة و مكاناً تطل به إلى العالم لتريهم وجهها النظر , .أما البيوت المنتشرة فتلبس قبعتها القرميدية الحمراء …
و تتقلد قلائد من ورود مختلفة عبر أحواض الزهور المنتشرة على نوافذها , وهذه الأكواخ يوصل إليها أرصفة بمربعات متراصة يفصل بين تلك المربعات عشب خرج من بين القوة الخرسانية , فأراد أن يكون له في كل مكان بصمة , فكانت مربعات أسمنتية محاطة ببرواز أخضر فكانت كصورة جميلة صامته..
و تشاهد من أعلى الجبل المشاهد المتحركة , نهرٌ جاري , و يطوف من فوقه جسر معلق , يحمل أناس يعبرونه بوسائل مختلفة , إما بسيارات , أو على أقدامهم , أو بدراجاتهم . ومن هناك سكة حديد تحاذي النهر , فإنما هي لحظات حتى تمر عربات القطار تباعاً , كسلسلة متماسكة صبغت بلون أحمر . ومن بعيد هناك أناس , و سحب وضباب , وقطار و سيارات , و أبقار وأغنام يؤكدون أنك أمام لوحة حقيقية متحركة . وكل برهة ألمس عيني لأتأكد هل أنا أمام لوحة تلفزيونية كبيرة تحكي عن الطبيعة , أو أنا في سحر الطبيعة نفسها ..
و لعل الوقت المقرر للإطلالة قد انقضى برغم أن المتعة لم تنقضي من تلك المناظر و تلك المشاهد , أشاهد و بنظرة أخيرة عبر تلك الإطلالة لكل الأراضي المحيطة , فأختزنها كنسمات هواء أو كقطرات رذاذ , لكي أغذي بها عقلي و صدري كل حين , أسحب جسمي على هون حتى لا تعلم نفسي بخروجها من ذلك الحلم الحقيقي …
أدرت محرك السيارة , فدرت نفسي أنني باغتها بالمسير , فتريد أن تلومني و لكنها تعلم أنها في أرض زيلامسي , و كلها أرض أحلام , ففتئت تفكر إلى أين سيأخذها المسير , أو أين ستكون المشاهد الجديدة …أرض الشلالات كارميل هي منظر آخر , تحضر فيه الطبيعة بشكلها الفاتن , فعلى بعد 24 كيلو من زيلامسي , و عبر ممرات جميلة , و قرى متعددة , تجمعها البساطة و الطبيعة , و تلاحظ فيها توفر الخدمات السياحة …
المؤشر يؤشر باتجاهات مختلفة , و منحنيات متعددة , و لولا ثقتي فيه لقلت أنني ضللت الطريق إلى كارميل , لكن هو يسمعني صوته وأنا أوافقه بلا تردد , فقد بدت بيني و بينه ألفة جديدة رغم خلافاتي القديمة معه , و بدأ يرسم لي لوحة الطريق بأبعادها الثلاثية , بشكل جميل , و بمنحنيات تجسد لك الواقع , و يضعك في صورة مطابقة للواقع , بطرقها و منحنياتها و محطات وقودها و استراحاتها و مطاعمها و متاحفها و فنادقها و يظهر لك البحيرات القريبة و الأنهار الجارية , فهو بحق غرض المسافر و منوة الجاهلبالطرق من أمثالي …
لا يمكن أن تمر عبر طرق , أو قرى , أو مدن النمسا و تغض الطرف عنها أو تمل العين منها , أو تؤمن أن هناك في الكون متشابه . فكل قرية و مدينة لها طابعها الخاص…
ما تشاهده من قرى تحت الجبل , تختلف عن تلك التي تعانق السحب , و ما تشاهده بجانب الحيرة تتميز بميزات خاصة عن تلك التي يحتضنها النهر , لها مناظر مختلفة ليلها عن نهارها , مطلع شمسها عن مغيبها , في صيفها و شتائها , و لن أزيد فإن زدت فأخاف أن تحسبونني بالغت , و إن زدت أخاف أن أنقصها من حقها …
سرت بسرعة متوسطة و سيارتي تلتهم الطريق , و الوقت عن جميع ما تعشق العين يضيق , لمحت من بعيد صورة لجبل عالي , الخضرة تكسوه …
و الماء المنهمر من أعالية يسيل بقوة , ضارباً بالأرض , مدوياً بصوت يسمعه البعيد , هو صوت الماء , هو صوت تطرب له النفس مهما كان علوه أو قوة صوته , هو يضرب بالأرض فتطرب أوتار القلب…
هو يضرب بالأرض لينادي عشاقه , هو يضرب الأرض ليضج الوادي , و يسيل النهر, و ينتشر عبر الفضاء الرذاذ …
المكان هناك جبال خضراء , وماء منهمر , و رذاذ متطاير , و سحاب سائر , و قطرات متساقطة , و نهر جاري , عالم جديد , وصورة أخرى من صور الطبيعة التي تحلت بها تلك المنطقة و التي و هبها الله سبحانه وتعالى إياها….
ما إن رأيت ذلك المنظر , و ما إن لمحت لمع برق الشلال السائل , حتى توقفت فجأة و بدون مقدمات , ركنت سيارتي في مواقف تعج بالسياح , و حملت معطفي , و كاميراتي , و تسابقت مع الناس في ممرات صغيرة ….
حتى دخلت عبر نفق مظلم , و بعده انبلج نور , من خلفه جبل , من فوقه ماء منهمر , من تحته نهر جاري , لا أدري إلى أي المناظر عيناي تتجهان , أهي إلى الجبل , أو إلى النهر , أو إلى الشلال , عشرات الصور التي تتزاحم , أما ناظري , و نفسي الطماعة تلتهمها بلحظة بصر …
هي أروع و أجمل ما تتنفسه نفسي , و هي أمتع ما تأنس به روحي , من هول المنظر لم أدري , من أين أبدأ ؟! أو من أين أسير؟! أو من أين تكون البداية ؟! و إلى أين سيكون المصير و النهاية ؟!
سحبت بقايا روحي المتعلقة في أطراف تلك المناظر , لملمتها و جمعتها , و أخذتها لأسبح عبر جنة صغيرة من جنان الدنيا , في هذا الممر الصغير , تنتشر المحلات المنظمة المنمقة , و التي خصصت لبيع التحف و الهدايا التذكارية , و هناك بعض المحلات التي تبيع المشروبات و المأكولات..
و هناك من يبيع احتياجات الرحلة , و هي التي كنت أجهلها , و كنت لا أعلم بها بل لم أفكر بها , فأنا لا أعلم أن هناك من يقوم بمثل هذه الرحلات , ليستمتع المتعة الكاملة , بل يجمع مع المتعة أن يكون مارس هوايته المفضلة …
فتجدهم محملين عبر حقائبهم الخلفية , بما لذا وطاب من كل مأكل و مشرب , بل تجدهم تزودوا بكل ما يعينهم على المسير عبر خط طويل منحني.. ملتوي.. متعرج , يبدأ من أسفل الجبل , حتى يصل إلى مصدر الشلال في قمته . كان زادي الذي أحمله هو بقايا من فطور الصباح أحمله في جوفي , و معطفي الذي ربطته على رقبتي بقوة حتى كاد أن يخنقني , و بيدي كاميرا أصطاد بها الكثير من اللقطات , و فوق ذلك وهبني الرحمن عينان تريان كل المشاهد الظاهرة وتتابع المختفية , و عقل يتأمل فلا يمل , و قلب يحب فلا يكل , أخذت تذكرة عبور إلى ذلك المجهول , فانقسم الطريق إلى قسمين…
طريق يؤدي إلى الأعالي حيث القمة عبر المنحنيات الضيقة , و طريق يؤدي إلى أسفل الجبل حيث تكون عند مصب الشلال و مبتدئ النهر , حيث منطقة حالمة و يدوي فيها صوت الماء المنسكب وبقوة من أعلى الجبال العالية , فتتكون بحيرة صغيرة , منها يتولد نهر جاري , يخترق الأرض متعرجاً بين غاباتها , و ماراً بأعشابها , ثم يغيب وسط تلك الغابات…
فتجد الناس هناك يتتبعونه , حتى يصلوا إلى أفضل مناظره , و هيهات لهم أن يصلوا إلى الأكمل فكل المناطق هناك تتزين وتتجمل , أردت أن أختار الطريق الذي يصعد بي إلى القمم , و يعانق السحاب , و يريني كيف تتكون الشلالات من مصادرها…
و لم أعلم أن اختياري هذا شاق , وأن همتي سوف أدفع ثمنها باهظاً , نظرت نظرة تأمل كماهي نظرات الخبراء , شاهدت الطريق الذي يسير عبر ممراته وعبر أطراف الجبل , فرأيت جموعاً من السياح يسيرون وهم مبتسمون , فتاقت نفسي إلى أن أكون معهم في هذه السلسلة المتصلة , تاقت نفسي أن أكون حلقة فاعلة في سلسلة المسير إلى المعالي…
عندما تشاهدهم في هذه الممرات تعتقد أنك أمام خيط طويل من مسار للنمل , النظام يحيط بهم , و الصفوف متقابلة , خط يسير إلى أعلى , و خط قد أنهى رحلته فهو في هبوط إلى أسفل , شددت معطفي على رقبتي حتى كدت أن أصرخ , وذلك لكي استعين به على صعود الجبل , أخذت بالمسير , عبر الجبال , و الأشجار تحيط بنا وهي باسقة عالية , و الأرض كانت تزدان بالزهور و النباتات المختلفة …
في ذلك المكان أنت في سباق مع الجميع , فكان نصيبي أنا أن السابق الكهول و الصبيان , فأتقدم عليهم مرة و يتقدمون علي أكثر من مرة , و عندما يعييني التعب كنت أجلس على مقاعد منتشرة في الطرقات , .فجلس بجانبي , أب و أم و أطفالهم , جلسنا بكراسي متجاورة , جلسوا فأخرجوا من حقائبهم الخلفية , أكياس و من وسط الأكياس لفافات , و من وسط اللفافات سندوتشات , أشكال و ألون من المطعم , كنت أتظاهر بأني عنهم غافل , و لم يعلموا أنني بينهم ساكن , فأسناني تتحرك مع كل قضمة من قضمات أسنانهم , و خداي يشفطان بقوة وبلا رحمة على شافط عصيرهم , هم يستمتعون و أن بجانبهم أتعذب , لقد فقدت نصف طاقتي في منتصف الطريق , فلم أحمل معي ما يسد جوعتي أو يبلغني أن أكمل رحلتي إلى أعالي الجبل , و إن كان زادي الوحيد هو الماء الذي أجده يبلل شفتي و ينساب إلى حلقي عبر قطرات المطر المتساقطة من السماء . رحلوا و ليتهم لم يرحلوا , لقد أحسوا بأن هناك من يراقبهم في مأكلهم و مشربهم , فخافوا أن تصيبهم عين ( لا ادري هل بالنمسا , إيمان بالعين أم لا ) أو أن تصل يد جارهم إلى متاعهم , و دعتهم بنظرات , بل ودعت سندوتشاتهم بنظرات , فأتبعتها عبرات مرسومة من قطرات المطر…
حاولت أن أقوم و أن أكمل المسير لكن هيهات هيهات فركبتاي لهما صرير , كصرير حقيبة تجر على أرض رخام , أو كصوت غراب مزكوم , أو صوت قرد مكلوم , لا لن أقوم منحني الظهر , و قد بانت عيوبي أما الناس , لذا سوف أصبر…
و أجعل من جلستي هي جلست تأمل للمارة من السياح السائرين بخط النمل الممتد , آه بدأ أول الواصلين هذا عجوز قد سبقته قبل حين , في هذا الطريق , و الآن يدب على الأرض بخفي حنين , هنا من يقف لحظة كمن يملك سيارة فاخرة في طريق سريع , فيتوقف فيرى أن كل الشاحنات تسبقه , و أن كل السيارات المعطبة تتجاوزه , هم يمرون من عندي و على وجوههم ابتسامة الرضا , أو من الممكن أن تكون هي ابتسامة الشماتة من العداء , أو ابتسامة الفرح بالوصول إلى هذه النقطة , دعهم يسيرون و سوف يلحق بهم فتى نجد , و لو بعد حين , فقد كنت أنا و إياهم كالأرنب و السلحفاة . هناك من بعيد و عبر المنحنى الذي يسبق الكرسي , الكهل يسير , بيده عكاز و بيده الأخرى عجوز , و كلاهما مر , و أمر منهما أن يتجاوزني هذا الكهل , عجوزه قد تزينت بكل زينه , و أكملت زينتها بطبق مفضل من الأصباغ المكملة , فصارت مع قطرات المطر المتساقطة كلوحة غامضة , هي ألوان مبعثرة بوسطها شفة متحركة , و خدود ملطخة , و عيون بسواد الكحل و الظل غارقة , من يراها يعتقد أنها في حفلة تنكرية , أو أمام بوزو المهرج الشهير , اختفيا عبر الممرات الضيقة كابطأ لوحة تمر من أمامي . و هناك شاب قادم قد امتلئ حيوية و نشاط , تحيط بيده فتاة سعيدة , يلقي إليها بكلمات فتغرق بالضحك حتى الممات , .و هناك أب و أم و قد حملا طفليهما على ظهورهم , قد حملاهما وهناً على وهن , لا ترى من هذين الطفلين غير عينين زرقاوين , و خدين أحمرين , و شعر أشقر يميل للصفار , ( لكن أهم شي كل واحد منهما معه سندوتش ) , هناك قادم جديد إنه شكله غريب , إنه آسيوي من اليابان ( ولد جيرانا , من حارتنا , قصدي قارتنا ) , عيناه تلمع منهما الفطنة و الذكاء , يتحرك بنشاط , الوقت عنده محسوب و ذلك من الساعة الكبيرة التي يحملها بيده ( أكبر من منبه النوم , قصدي الساعة الخراشة , للذين لا يعرفون منبه النوم ) , و خلفه حقيبة كبيرة جداً ( لو تحطها على ظهر كافر أسلم , ) يلبس بنطال و جاكت فيه العشرات من المخابئ , فياليتني أعلم ما بها , ياباني طبعاً من المؤكد أنه يحمل فيها كمبيوتر و ثلاث أنواع كاميرات و منظار و آلة حاسبة , و دفتر و أقلام و خريطة و نفيقيشن , هذي أول مخبأه , فما تتصورون أن تكون المخابئ الأخرى , لكن الذي يحرك كل علامات الاستفهام في عقلي , هو أين تكون مخباه المأكولات من تلك العشرات , يخبط برجليه كما يخبط الخبل على الأرض البلل , بحذاء كبير , ولا أعرف فهل يمكن أن يكون بهذا الحذاء , مخابئ أخرى , شعره يتراقص مع خطواته و خبطاته , يمشي كمن يقفز , و يسير بسرعة مقننة مضبوطة , إذا رأيت من هم على شاكلته كرهت الرحلات , فهي معقدة و مرتبة أكثر مما تستحق , بعد هذا الياباني , زاد نشاطي , اختبرت ركيباتي , وجدت أن الصرير قد خف , و أن بإمكاني مواصلة المسير , كان الرذاذ ينتشر في الفضاء , فينثر قطراته على وجهي , فتزيل تلك القطرات كل آثار التعب و الجهد عني , فهي تلامسني بنعومة , تداعبني بلطف , أما أوراق الأشجار فكانت تجمع قطرات من قطرات المطر , فكأنها تنتظر هذا المسافر الذي أعياه المسير , فتُسيل القطرات مترقرقة من الوريقة على رأسي , فتأخذها شعراتي , فتنزلها بهدوء إلى أطراف رأسي , فتسقط كل متاعبي , عبر تلك القطرات , و تتوه في تلك الدروب , و يطأه كل المارة , فتموت الأتعاب تحت الأقدام . لعل كل مطل هو أجمل من الآخر , و لكن مع المشقة التي لاحظتها على أطرافي , أقدامي و مكابحي , قررت التخلي عن الوصول للقمم , فقررت العودة , و في اعتقادي أن النزول أهون , و لم أعلم أنني فقدت كل طاقتي بالصعود , فصرت غير متحكم بجسمي , الذي بدأ يتسارع الخطى , و يكاد أن ينفلت مني , هو يسرع و أن أركض خلفه لعلي أن أمسكه , لقد كان النزول أصعب و بمراحل…
وزاده أن المطر بدا يهطل و بقوة , فتبللت كل ملابسي , و بدأت تظهر ملامح جسمي من خلف ملابسي , و أما المعطف الذي كان يأمل منه أن يكون معين , صار بعد تبلله بالماء حمل ثقيل , أسير ثم أهرول ثم أجري فلا أتحكم بحركة يدي أو رجلاي , الكل يبتعد عن هذا الهابط و بقوة , و لم أصدق خبراً عندما وصلت إلى هذه الماعز …
لأنها هي نهاية الطريق و نهاية رحلت الصعود , و لو أن أحدكم استشارني لقلت عليك بمجرى النهر أفضل من صعود للجبل , فهناك الوقت المصروف أقل و المنظر أجمل …
خرجت من الرحلة بنفس جديدة , و ثياب مبللة و شعر كشعر طفل خرج للتوا من دشه اليومي , الهواء بين الجبال كان باستقبالي و مع ملابسي الرطبة , كانت على موعد مع البرد الذي علق في جسمي و رافقني حتى سيارتي , دخلت كبينة القيادة , و أشعلت مدفئة الكرسي على الرقم العالي , بدأ بخار ملابسي ينتشر داخل الكبينة ( كانك بمغسلة ملابس ) , و ماسحات الأمطار تجاهد من أجل بعثرت كل حبات المطر المتساقطة , أول خطواتي داخل الكبينة بعد التدفئة , هي البحث عن البسكويتيات , أكلتها بلا هوادة( هل تعرفون قرقور عندما يأكل البسكويت , في افتح ياسمسم , مثله بالضبط , واضح إني قديم , إنسان أبيض و أسود , بس كل البياض بقلبي ) , دفعتها بماء , فتصبصب الماء على ملابس بلا مبالاة مني , و موعدكم الحلقة القادمة و هي الحلقة الأخيرة , الحلقة القادمة بإذن الله هي حلقة الوداع بعد أن عشت معكم أيام جميلة فهي تحكي لقطات و مشاهد خلف الكواليس…
نسيم نجد
naseemnajd.com
إذ لم تفتح بعض الصور , . ضع مؤشر الفارة على الصورة + ضغط المفتاح الأيمن من الفارة + اختر من القائمة المنسدلة إظهار الصورة
روابط بقية الحلقات :
برغم جمال أشعة الشمس وإشراقتها
,
إلا أنني أجد في الأجواء الغائمة
طبيعة ناقعة الألون , دافئة المنظر
فأفضلها على الأجواء المشمسة ..
أما صعود الجبل فذاك شيء آخر , حيث تُمتحن اللياقة ,
لقد اكتشفت بعدها أن أعجز عجوز لديهم هي أنشط من أنشط فتاة في الخليج
قد كان صعود الجبل خبرة مرعبة( عبر ممر المشاة طبعا ) ,
وصفتَ الرحلة كأنما عشناها ( حقا ) لحظة بلحظة
بوركتم
وبانتظار الجزء الأخير ,,
أختي الفاضلة / رحيل ~
نأنس بالغيوم
ونسعد بالقطرات
و نفرح بالرذاذ
ولكن في تلك البلاد نخشى إن أقامت أيام بيننا أن تنتهي مدة رحلتنا ونحن لم نقيم برنامجنا الذي خططنا .
لذا فالشمس والسحب و المطر و الأشعة والليل و النهار تعاقبها سنة إلاهية محببة للنفس , و تجعل المرء يقيم أمره و يقوم بعمله على أكمل وجه .
و أما العجز هناك فلا تفتحي الباب للحديث عنهن , فيصيب الحزن فتيات بلادي .
بارك الله فيكم و جزاكم الله خيراً على تعليقكم .
والحلقةالأخيرة هي حلقة وداع وشكر .فآمل أن تكون بالقريب .