لوسيرن – لوزيرن – Lucerne-Luzern
تابعت طريقي بعد أن استمتعت بتلك القرى الصغيرة و التي سكنت بين إنترلاكن و لوزيرن…فعندما تمسك مقود السيارة هناك… فتأكد أن المتعة قد حضرت…و ذلك لأن الطرق السويسرية هي من أفضل الطرق في أوربا…وليس جمالها فقط بما تحتويه الطبيعة من حولها…بل لوضوح إشاراتها …
و تتعدد اللوحات الإرشادية التي تصطف في عرض طرقاتها …فتمسكك من يدك …و توصلك لمقصدك …وبدون أن تستعين بأجهزة الملاحة الحديثة…
حيث تُوضح المدن على أطراف الطرق…وترشدك إلى العواصم البعيدة و المدن القريبة…و تجزأ لك أي مدينة أجزاء صغيرة تجعلها للفهم سهلة و يسيرة…
مررت بمدن و قرى عدة ( Sarnen–Diesselbach – Obsee ) قبل الوصول إلى مدينة لوزيرن … و التي أتيت إليها من أجل أشياء محددة …
فكان باستقبالي جمع من الزهور السويسرية … و التي تلونت بألوان عدة …وبدت بأجمل حلة…
ليست الزهور فقط هي التي كانت في استقبالي…بل حتى جمع من البط الذي أخذ يروح و يغدو…و يقترب ويبتعد…ينظر إلي بنظرات ثم يتأمل … و يفكر ويتفكر.. و أحس أنه يقول بنفسه: مالذي أتى بهذا الغريب…فلا هو من أرضنا و لا عرقه يصب في عرقنا…
لم أجزع من قوله بل استمتعت بمنظره…ثم أزحت نظري عنه…فهكذا الغرباء الكل ينظر إليهم نظرات استغراب…و إن حسُنت فهي نظرة إشفاق …خرج البط من البحيرة…فكأنه أحس بمشاعر الغضب التي اكتنفتني من نظراته…و بما سببته نظراته هو و نظرات أصحاب الأرض وما أثرت به على هذا الغريب المسكين في تلك المدينة…و لاأملك أمام تلك النظرات سوى الاستسلام…فأنما أنا ضعيف بوحدتي…فكيف عندما أعيش في أرض غربة …و تحيط بي من كل مكان العيون التي ترقبني …حتى أن المباني الشاهقة ….والجسور الممتدة…وكل شيء بالمدن الكبيرة …لتدخل الشك إلى نفس الغريب ممن هم من أمثالي بنظراتها المتتابعة…وتشعره بأنها تنظر إليه …بل و أنها تتابع خطواته في كل زمان ومكان…وذلك بعكس القرى التي في الريف…حيث ان الطبيعة و الزهور لكأنها تحتضن الغريب…و تمده بالراحة والطمأنينة والأمان…لذلك…أسعد هناك..و يزول قلقي …و تنفتح نفسيتي…فأنا أحس أنني بين من يعرفني ..
البحر و السفينة …منظر يبحث بالنفس الأشجان والأحزان…لقد تمنيت أن تُقلني هذه السفينة إلى أرضي و التي أحس ببُعدها الشديد عني…فبُعدها لا يقاس بالمسافات أو بالمدة الزمنية التي تفصلني عن أهلي و بلدي…بل مقياسها بمقدار ما أجده من الشوق في قلبي…ومقدار ماحرمت من نظرات أمي…و بالقدر الذي اشتقت فيه إلى تقلب طفلتي بحجري…وبالقدر الذي أفقد فيه سكني ومودتي وزوجتي…هذا البعد من الصعب أن تقيسه بزمان أو بمسافات…فهذه الأيام التي قضيتها بعيداً عنهم…أعتبرها أيام قد سقطت من رزنامة حياتي…فلن أستطيع أن أستعيدها مهما يكن…ولن تعادلها أي سعادة في هذا الكون…فإن كانت هذه الطيور تهاجر…وهذا السفينة تبحر…فإن قلبي تحت هذه الشجرة يستظل…ويندب حظه الذي جعله يبتعد عن الأهل كل هذه الفترة…لماذا تحركت المشاعر ؟ …لا أعلم فهل أنا استيقظت بعد سبات..أم أن مشاعر الوداع التي رسمتها على صفيحة إنترلاكن حركت في نفسي كل مشاعر الوداع التي يختزنها صدري …فكانت صفحات أهلي ووطني من ضمن تلك الصفحات التي قلبتها رياح الغربة و الوداع…..
ابتعدت عن البحيرة …و الطيور المهاجرة… و السفينة المبحرة …وكل ما يذكرني بالغربة… ويحرك في صدري الحرقة…فأخذت أتجول في حديقة غناء…مترامية الأطراف…يصحبني في سيري…قطرات المطر …فهي الوحيدة التي تعرفني و أعرفها …و هي الوحيدة التي تواسيني…فكم نزلت على وجهي لتمسح أحزاني…و لتغسل همومي…و كم اختلطت مع قطرات تسللت من عيوني… فأختلط ماء العين المالح اللاذع مع قطراتها العذبة …فأزالت كل مكامن الحزن في نفسي… و هناك صديق آخر أسر برؤيته…و هو جمع من الزهور في زوايا عدة في أركان تلك الحديقة… تشاهدني من بعيد …فترسل رحيقها لتدخل في صدري السرور… أثناء سيري في ممرات هذه الحديقة أمر من بين الطيور فتتطاير… و أقبل على البط فإلى البحيرة تهرب…لكم العذر …فالغرباء دائماً في محل الخوف…وهم محل التهمة…رغم أنهم هم أكثر الناس خوفاً…و أكثرهم حاجة للأمن…
لقد دخلت المدينة…في وقت مبكر…وكانت خالية إلا من بعض الرسومات…والتي رسمت لأشخاص مختلفين لأهداف متنوعة في شوارع تلك المدينة…فكانوا باستقبالي…فسرتني صورتهم المعبرة…رغم أنهم أكثر الناس جموداً بالمشاعر…فكان تحيتهم تؤنسني…برغم أن نظراتهم صدرت من عين لا تعرفني…و من قلب لا ينبض لي أو لغيري…ولكن هل هناك أفضل من الابتسامة …فهي كماء عذب يصب في القلب….أو ينابيع تُفجر أنهار السعادة في الحياة…
حتى و لو كانت من إنسان قد جمدت حواسه…أومن تمثال قد أتقنت ابتسامته…إن الغريب يأنس بكل من ينظر إليه متودداً …ولو كانت نظراته مصطنعة…أو هي مصروفة إليه و إلى غيره…نظرت إلى هذا الذي نظر إلي و أخذ يلوح بيديه…فأرسلت إليه نظرات و أنا مسرور…وتبسمت بابتسامة واسعة ..فكأنني أجد إنسان عزيزاً أفتقده …نعم إنني أفتقد الابتسامة الصافية…النقية …الخالية من المجاملة …أو التي تقدم عن تقديم خدمة …أو ترسل عند إجابة على استفسار معين…و دعت ذلك التمثال المرح….و أبطنت له المحبة…فكم أدخلت السرور إلى قلبي ياتمثال…أضحك الله أنفك
لكن فرحتي لم تكتمل….فقد مررت من جانب تمثال آخر…فكان فيه من الكبر مافيه…و من الأعراض الشيء الكثير…فقد رفع رأسه معرضاً عني…فما ذنبي…لقد كنت أعتقد أن مثل هؤلاء التماثيل لا يفرقون بين الغرباء و أهل البلد…ولكن أخطأ اعتقدي …حتى التماثيل قد علمت أني غريب…فأعرضت بوجهها عني…و انقلبت باتسامتها عن وجهي….وكل ذلك لأني غريب…آه…ما أقسى الغربة…و ما أقسى النظرات التي ترسل إلى الغرباء..أو ما أشد حساسية الغرباء من مشاعر الآخرين…( روح منك لله …أنت وأنفك الطويل الذي يكاد أن يعلق بملابس المارة من السياح )
تأخذني قدماي في أزقة المدينة…و على طرقاتها المرصوفة بالحجارة…فتظهر مشيتي متعرجة…فأنزل من مرتفع عبر درجات ممتدة……وأمر من جانب قصور و دور فارهة…
قرع نعالي لا يهدأ…و خطواتي تنقلني إلى جسر ممتد طويل…أعبر فيه نهر جاري…قد زخرف بحواجز حديدية جميلة…و علقت بأطرافه فوانيس إضاءة طويلة…و على أرضية الجسر تنعكس صور المارة…وذلك بأثر قطرات المطر الهاطلة…
قدماي لا تتعبان من المسير..فوقتي محدود…و أهدافي محددة بدقة…الجمال استضفته في صدري…وفي أوقات خلوتي سوف أستمتع به…و الصور التي أختزنها في قلبي…سوف أستعملها عندما أقلب صفحات حياتي…
تبرز لي المباني الحديثة في أجزاء من تلك المدينة…ولكن ليست هي بغيتي…ولم تكن من ضمن برنامجي…فالحضارات الخراسانية لا تقدم و لا تؤخر عندي…فزهرة في طبيعة…أو واحة في صحراء قاحلة…أو منظر جميل من زمن غابر أهم ومقدم على كل السياحة الخراسانية الحديثة ..
مررت بجانب دراجات هوائية مصفوفة وبكثرة…فشحذتني قدماي أن استخدمها…و شحذتني همتي أن لا أركن لأتعاب أقدامي…أو أنزل إلى طلباتها…فالسفر هو مكان اكتشاف الهمم…و محل اختبار الصبر…استمعت لصوت همتي….فتجاوزت اختبار الدراجات بنجاح…و خاب أمل الأقدام بأن ترتاح…
مررت بجانب النهر العظيم…وهو يدفع الماء خلاله بقوة…فقد نزل من منازل بعيدة…فصوته أصبح ينادي و يصيح بالسياح أنني متواجد…و هل من مستمتع بهذا الجمال….
من على جسر ممتد من على النهر…نظرت من أحد أطرافه إلى معلم قد كان في قائمة المزارات التي في خارطتي السياحية…فهل حقاً هذا هو الهدف الأول أصله…و هل حقاً هذا الذي كان مكان حديث الزوار من الأعضاء…
لا أصدق…فأردت أن أتمعن…و أن أقترب…لعلي أصدق…أو تتضح الصورة أكثر…اقتربت فنظرت من خلال الحاجز الحديدي المزخرف…فأصبحت و كأني أسجن من خلف قضبان عن أمل من الآمال…أو أنني أحجز عن شيء يريد قلبي أن يصله و أن يستطلعه…
فلم تقف آمالي مع تلك الوساوس..بل تابعت لكي تعبر إليه آمالي…و تصله…فبدأت صورته تزهر…وبدأت ملامحه تتزين….وبدأ منظره يكمل…
اقتربت من الجسر الخشبي….و برجه الشهير….اقتربت منه وبان بشكله الذي يمتد بوسط النهر…فليس هو يمتد بشكل عادي مثله مثل الجسور الأخرى…بل أخذى منحني و بشكل كأنه يسير مع مجرى النهر…
عندما مدخله تجمع السياح من كل مكان…و اخذ الكل منهم يلتقط الصور التذكارية مع ذلك الجسر..فكأنهم وجدوه بمشقة …مثلما أنا وجدته بعد عناء طويل…وكثرة مسير…
دخلته من الجهة التي تقابل جهة البرج الثماني…فدخلت مدخله الخشبي المزين بالزهور…
فماهذا الجسر ؟ و ما قصته..فإليكم قصته مقتبسه من موضوع أختنا الفاضلة الغائبة الحاضرة / فتاة عربية… و سوف تجدون رابطه في أسفل الموضوع …و مكانته في أعلى قلوبنا… …تقول عنه (الجسر الخشبي Kapellbruecke : و يسمى بجسر الكنيسة تيمناً بكنيسة السانت بيتر القريبة و هي أهم و أجمل الجسور السويسرية, بنيت منذ قرون طويلة في القرن الرابع عشرة, و قد أحرقت أجزاء منها في أعمال ثورة أو شغب, لكن تم إعادة ترميمها لاحقاً و يمكنك تمييز الجزء القديم من الجسر بسهولة ( لون الخشب أغمق بكثير). و يقسم هذا الجسر الممتد على نهر Reuss المدينة إلى جزئين, المدينة الحديثة و في الجهة المقابلة المدينة القديمة . إذا نظرت للأعلى (لسقف الجسر), ستجد رسوم لقسيسين و رجال أثروا التاريخ السويسري ( أحد الرسوم كانت لوليم تل) و رسوم للوسيرن القديمة, و توجد كتابات تعلق على تلك الرسوم و لا أدري إن كانت آيات من الإنجيل أم لا, و قد نقشت في القرن السابع عشر, فكأن هذا الجسر متحف تاريخي في الهواء الطلق. ) انتهى كلام الرحالة العربية فتاة عربية..
هذا الجسر …هو لوحة خشبية جميلة…علقت على أطرافه الزهور… وحلقت من حوله الطيور …و زين سقفه بالقريمد الأحمر…فغدا كأجمل جسر…
أما من الداخل..فأعمدة مصطفة بشكل مميز…و من فوقها خيمة خشبية…و على أطرافه حواجز ناعمة…قد كتبت في بعض أجزاءها و عبر أنامل ناعمة ذكريات لفتيان وفتيات عربيات قد مروا عليه…فمنهم من سجل أيام شهر عسله…ومنهم من كتب أيام عمره…و منهم من كتب فريقه المفضل …
وأخشاب السقف و الأرضية و الأعمدة و الحواجز قد دهنت بدهان مضاد للرطوبة رائع….و للكتابات المتجددة مزيلة….
و قصت أطراف سقفه الخشبي بشكل مثلثات…فصارت كتحفة فنية جميلة تستطيع أن ترى معها المدينة كلوحة رائعة جميلة يحيط بها برواز خشبي منحوت فيه زخارف فريدة …
أما إذا نظرت إليه مع الجنب…فأنت ترى العجب…فالحسن قد أجتمع…طيور النورس في هدوء تسكن…وزهور تنتشر و لمن حولها تنعش و تبتسم…
و ألوان تزهو …و تتنوع …و تتشكل …وترسم في كل اتجاه لوحة الجمال و الحسن…
الناس عبر هذا الجسر يتجولون…فهم يغدون و يروحون…وكل همهم أن يلتقطوا الصور…فيشكلون منها و ينوعون…
فهذا يصور الجسر…وذاك يصور البرج…وآخر يصور ما عُلق من الزهر…ومجموعة يصورون فرادات…ثم يتجمعون ويصورون بشكل مجموعات…
و منهم من تجده قد اتكأ على أحد الأعمدة الخشبية…فأخذ يتأمل ماحوله من المناظر..فتارة ينزل رأسه فينظر إلى النهر الصافي و يستمتع بصوت جريانه…و تارة ينظر إلى السماء و كيف السحب تتشكل في سقفها فتتجمع ثم تفترق…فتارة تبرق و تارة ترعد…و تارة تتلون بالبياض و مرة أخرى بالسواد… تارة تهب منها النسمات و تارة تنبعث منها رياح عاتيات..و ينزل بنظره إلى ما بين السماء و الأرض …طيور تحلق…وطائرات تحوم …و شمس تظهر و أشعة تزور ثم تغيب…و ليل يقبل ونهار يدبر…
ثم يأخذه تأمله بعيداً …حيث المباني المصطفة على الجانب الآخر للنهر…حيث تشكلت مجموعة من المباني منه القديمة و الحديثة…فالقديمة تحاول أن تتماسك أمام المد الحضاري الحديث…وتحاول أن تصمد أمام التصاميم الجديدة…
و تختلف و تتنوع المباني…ولكلٍ عشاقه…و لكلٍ زواره…و لكن يبقى للمباني التاريخية أثرها الجميل…و رحلة للنفس معها تطول…و مكان للتأمل خصب ينموا فيه و عبره حس جديد…
عندما تقف متأملاً عبر ذلك الجسر…تمتزج لديك الصور…القصور…والأبراج…و الزهور…والأنهار…
إن الجمال في كل مكان من حولك …إن أبعدت النظر فهناك منه الكثير…و إن اقتربت فلديك أكثر…
فهذا البرج الثماني يستقر في وسط النهر…و على أطرافه تداعبه الأمواج القادمة بقوة…فهي تطوف حوله…ثم تقبله …و تبتعد عنه مجبرة…حتى تحين أمواج أخرى….و قبلات أخرى…وأزمنة أخرى…
ولعل القارئ يتساءل عن هذا البرج…و تشتاق نفسه لمعرفة تاريخه…فإليكم قصة هذا البرج…عبر كلمات كتبتها أختنا الفاضلة / فتاة عربية عبر موضوع عن سويسرا باسم رحلة فتاة عربية…
تقول فتاة عربية ( برج المياه (المثمن الشكل): وهو البرج الملاصق للجسر الخشبي, و رمز مدينة لوسيرن, فعادةً ما تكون جزءاً من الصور الموجودة على البطاقات التذكارية في المحلات. بنيت في أوائل القرن الرابع عشرة, حيث كانت مقراً للسجن و التعذيب. )
و يتصل البرج…بالجسر الخشبي…حتى تكون منهم منظر بهي…يجذب الناظر من بعيد إليهما…و يسبح القريب في التأمل بهما…
خرجت من الجسر لأطوف في أجزاء المدينة…و لأستمتع ببقية معالمها…ودعت الجسر …و الزهر …و الطير…و النهر …و سحت مع السياح…فابتعدت قليلاً …قليلاً…حتى صارا من الذكريات…
يتبع….
لايستطيع أن يفي هذه البلدة الجميلة من الوصف سوى يراع نسيم نجد ، ولا يصورها للمشاهد وكأنه يراها رأي العين سوى عدسة نسيم نجد
لوزيرن ، كم هي مبهجة ..خاصة حينما يتعانق أثيرها مع ذرات المطر ..
دمت استاذاً ومعلماً لنا
كل الود