باريسيات
في الطريق إلى باريس …عبرنا الحدود الألمانية البلجيكية , فتغيرت المباني ,و أصبحت رديئة المظهر , و بان عليها عامل السن و عدم الأهتمام , أما الطبيعة الساحرة في الجبال بين الدولتين فبدأ يخبو سحرها , و ينطفئ لهيب جمالها .و بدأ القطار الذي يلتوي من فوق الجبال بالسير بخط مستقيم لا يكاد أن ينحرف أبداً .
في الطريق إلى باريس …عبرنا أنهار , و تجاوزنا جبال , ومررنا بغابات , و ودعنا على الحدود بيت نصفه تابع لدولة ألمانيا و النصف الآخر تابع لدولة البلجيك , كدليل واقعي على أن الإتحاد الأوربي قادم بقوة .
في الطريق إلى باريس…كان الناقل هو قطار سريع من فئة IC والذي عرف بسرعته و سكينته. وهي المرة الأولى التي أسافر بين دول أوربا بدون سيارة أقودها بنفسي .
في الطريق إلى باريس …كان لزاماً علينا أن نحول في بروكسل , عاصمة بلجيكا , و التي زرتها من قبل , فألقيت عليها تحية المعرفة , و الشوق .و طافت بذهني بعض الذكريات .
في الطريق إلى باريس …كان القطار الذي ركبناه بعد بروكسل أقل من أخيه الذي سبقه , و أبطء منه بمراحل ملحوظة , وليس ذلك مستغرب فالألمان هم قادة صناعة و صنع القطارات في القارة الأوربية .
في الطريق إلى باريس..ركب أمامي شاب و شابه من بلجيكا ,و يبدو أنهما سعيدان بالرحلة , وكان حديثهم أنغام رائعة , لم تسمع أذني في الحياة كلها مثل تلك النغمات الفريدة , و كان يجريان مكالمات عدة لحجز فندق في باريس , فتقابل كل طلباتهم بالأسف و الاعتذار من أصحاب الفنادق ,و ذلك لأن الوقت متأخر , و باريس مزدحمة بالأفواج السياحية . فكانت الفتاة تتنهد بعمق ثم ترمي برأسها على عشيقها , فيستمد قوته من حسرتها , فيبدأ المحاولة مرة أخرى . و أنا أنظر إليهم من خلف كتابي الذي أقلب صفحاته بتناغم بين فصول القصة التي أتتبعها , و حديث العاشقين الذي أسمعه , و انسيابية القطار الذي أركبه . فلما حصلا على حجز من أحد الفنادق كادا يطيران من الفرح , وكدت أن أطير معهم , لولا أن خشيت أن يقولا باللغة البلجيكية ” وش دخلك ” .
في الطريق إلى باريس…رأيت و للمرة الأولى أن الأرض تكاد أن تالتصق بالسماء , و أن السحاب يكاد أن يزحف على الأرض , و أن الأرض ممتدة و إلى نهاية العين و بالخضرة مكتسية .
على أطراف باريس…و قف القطار عند رصيف ممتلئ بالبشر , فالكل حضر هنا… فنحن الآن في أجازة نهاية الأسبوع الأول من أسابيع السنة الجديدة . و التي أعقبت احتفالات صاخبة في كل المدينة لتوديع عام و استقبال عام جديد .
في باريس …كانت الحياة تظهر بشكل آخر, حتى على أهل باريس, فهم يعيشون أحلاماً تداعبهم كل شهور السنة , و ينتظرون أن تحل عليهم هذه الأيام , أيام احتفالات الكريسماس . حيث يفد إليهم العالم كله ليستمتعوا باحتفالات باريس .
في باريس …الشوارع مزدحمة, و الفنادق ممتلئة , و الحافلات مكتظة , و الوجوه مبتسمة , والناس في كل مكان يتجولون , و يتبضعون , و يأكلون و يسمرون .
في باريس …أنت في وسط لوحة فنية منحوتة بأيدي عمالقة الفن العالمي , من القدماء و المحدثين . حيث تظهر لك الشوارع وقد نصبت في طرقاتها الكثير من التماثيل و التي تعبر عن مناسبات مختلفة , بعضها نهاية حرب , و بعضها إعلان نصر , و بعضها بداية مرحلة سلام, و بعضها بقايا فنان إندثر و لم يبقى إلا هذا الحجر ليطبع في النفوس عن فنه أثر .
في باريس …سكنت في مكان مناسب – لأكن أكثر دقة مناسب بالنسبة لي– فلقد سكنت في ظل قوس النصر , في مسكن صغير جميل مريح .
في باريس …كانت غرفتي صغيرة , و المصعد صغير , و الأستقبال صغير , و الآمال عريضة .
في باريس …كنت أستقل مصعد المسكن و له قفص من حديد , فكأنه سجن صغير. فهو قد وضع جزاء من يركض بأرض الحرية بدون حساب , لذا فهم يقبضون عليه متلبساً ليهدأ قليلاً , ثم يطلقون صراحة مع بزوغ الشمس ليداعب محبوبته في وقت جديد .
في باريس …كانت غرفتي صغيرة , و الأثاث متوسط الحال , و التلفاز لم يتجاوز 14 بوصة , و دورة المياه بمروش يقطر بقطرات شحيحة , و أرضيته قد كسيت ببلاط لامع , و الفراش أستطيع أن أنام على جنبي و براحة , و لو حاولت أن أنطرح على ظهري لسقطت بنعومة على أرضية الفندق الباريسي الرقيقة , كل ذلك لا يهم فرغم الضيق و القدم , فإن مايحمله عقلي من خلال الجولة اليومية يجعلني و كأني في قصر .و يكفي أنني عندما أسحب اللحاف على رأسي أحس كأنني أدخل قبتي الذهبية من الأحلام الوردية .
في باريس …كنت آتي بالليل بعد طول تعب و عناء من جولات النهار فأتمدد على سريري , فأجد قدماي خارج حدود منصة السرير , فلا أعلم هل سرير تقلص من البرد ؟! أم أنني أنا قد تمددت بفعل كثرة المشي و الحركة ؟!..لا أعلم و لا أعرف …و لكن الشيء الذي ابصم عليه بالعشرة ..و متأكد منه أنني لم أفتح الثلاجة , و لم أتناول شيئاً من مشروباتها العادية أو المعدنية أوالغازية أو المائية .
في باريس …سمعت بنفسي و بدون و سيط , كلمات بنجور , بنصوا , سمعتها بأذني مباشرة ,سمعتها برقة و نعومة .سمعتها كلحن .. كنغمة .. كتغريد طير .. بل و نطقتها بنعومتهم و رقتهم مثلهم , و وجدتهم يحسون بها و يستشعرونها .
في باريس …أسمع جغجغة و لا أرى ضحكاً .فهم يتكلمون بحروف أغلبها ذات جعجعة أو جغجغة . تضحكني و تطربني . و أما هم فهم يعقلونها و يستمتعون بها .لقد تذكرت مذيع الأخبار الفرنسية , عندما كنا نجتمع و نحن صغار و نضحك على طريقة نطقة الكلمات .
في باريس …استقضت قبل الفجر , وفتحت النافذة فوجدت أمر لا يسر , فأغلقت النافذة , فتأكدت فعلاً أنني في باريس .
في باريس …سمعت من غرفتي و بعد أن أديت صلاة الفجر , وقع أقدام سيدة تعزف بكعب حذائها على بيانو أرصفة المدينة , فعلمت أن الحياة بدأت تدب في الطرقات . فلبست معطفي مسرعاً لأستقبل الشعاع من أول النهار .
في باريس …وقبل بزوغ الشمس ..وقفت تحت قوس النصر لوحدي , فمن يأتي إليه في هذا الوقت المبكر و في فصل الشتاء ؟! إلا إنساناً قد خرج شوقاً لمعالم باريس , أو يبحث عن دفءً شعاعها أو يقتبس شيئاً من شعلتها , و لكن لكل شيء إذا ماتم نقصان..فلما نزلت ..وقفت دورية تحمل جنداً مدججين , وضع على عضد كل واحد منهم علماً يحتوي على 99 نجمة , و كل نجمة تجعلني أحس أنني أنا المطلوب الأول في هذا الوقت المبكر . نظرت إلى أكتافهم العريضة , و إلى أسلحتهم الضخمة و التي لم أشاهدها إلا في قناة CNN , أو أحد الأفلام الأمريكية . و رجع شريط الذكريات بكامله إلى ذاكرتي , و كيف أن الناس يتهمون بملا يفعلون . و أن الاعتقال قد نفذ إلى أناس لم يكن يربطهم أي رابط من قريب أو بعيد بالمطلوبين . فثلاث أشياء .وقت مبكر , و عند قوس النصر , و شاب عربي , جميعها مقومات تجعل الأدلة جاهزة لأن يرحل السائح إلى جزيرة بعيدة بغير تهمة . و بعد وقت قصير اصطف الجنود أمامي فحجبوا الكون عني , ثم أعطوني ظهورهم . ثم بدأت أفلاشات الكاميرات تبرق من أمامهم لتظهر قوس النصر من خلفهم . فعلمت أنهم أتوا للزيارة . و أن الأمر ليس كما أتصور .
في باريس …يقبع قوس النصر بوسط دائرة كبيرة , و بنفق حفر من تحته , و بسلم يؤدي إلى أعلاه , فتشاهد كامل جادة الشانزليزية , حتى المسلة المصرية , و من الجهة الأخرى يمتد بك البصر حتى يقف على الأدفانس . و من أمامك يقبع برج أيفل الشهير .
في باريس … هربت شركات التأمين الخاصة برخص قيادة السيارات من التأمين على منطقة قوس النصر , فإجتماع إثنا عشر طريق على تلك الدائرة تجعل الخطر قريب . و الخسارة من التأمين محققة .
في باريس …اخترت قوس النصر انطلاقا لرحلاتي الأستكشافية لغزو طرقات المدينة , فمشيت بأقدامي ثمان طرقات من الأثنى عشر طريقاً الممتدة من قوس النصر حتى تمددت جزمتي – أكرمكم الله – و كادت أن تتمزق .
في باريس …خرجت مع الطيور , و مع الموظفين , و مع أهل البلد , و مع الباريسيين كلهم في صبح مبكر , كلهم لهم أهداف محددة , أما أنا فهدفي أن أسير …أركض.. أجري.. أتمشى بلا هدف محدد .و هل هناك من غرابة فأنا في أرض الحرية , و حر بما أفعل .
في باريس …و في وقت مبكر تجد على الوجوه لمسة الليل القريب , فالوجوه لم تغادر مسحة النوم القريبة عن محياها , أما صاحبكم فقد استيقظ منذ وقت مبكر , و ودع النوم منذ آخر الليل , فهو نشيط و تضرب قدماه الأرض و بقوة , و ثقة .
في باريس …خرجت و يصاحبني رذاذ المطر , و تظلني قطع الاشجار , و تغازلني أشعة الشمس من بين السحب.و تزقزق من فوقي الطيور .
في باريس …و في ميترو الأنفاق عزف أمامي شيخ مسن . و معه فتاة شقراء صغيرة ترقص على النغم . و بيدها حصالة نقود تنتظر نظرة العطف ممن حولها .
في باريس …تختلف صالات ميترو الأنفاق عن ألمانيا المتقدمة , فعبث المراهقين يظهر على جدران المحطة , و مجموعة ملونة منهم تعزف بقوة حتى تفجر الآذان . و يتراقص حولهم مجموعة يظهر أنهم قد أجروا و بمبلغ زهيد الدور الثاني و الثالث و حتى الأرضي و البدروم من عقولهم بفعل المسكر. فتصاب بحالات من الذعر من حركاتهم .
في باريس …قطفت تذكرة الميترو و علمت بأهمية أن تبقى بيدي , و أن أحتفظ بها حتى استطيع أن أفتح المزلاج المتحرك الذي يفتح لي مسار القطار الذي أريد . و لكن فوجئت بأن شاباً يقفز من فوق السياج . فعلمت أن الحرب خدعة . و علمت أيضا أن الغريب يجب أن ينظر و يبتسم بدون أن يقلد , أو يحاول أن يوجه .
في باريس …الحرية بكل معنى الكلمة , فلقد فككت آخر القيود , و انطلقت بلا حدود , و خلعت الثوب الضيق من التشدد . فهنا و في باريس انقلب الحال من الأسود الحالك السواد , إلى الأبيض الناصع البياض , فسقف الحرية قد رفع درجات ممتدة و بدون سقف حديٍ أعلى . فهنا لا تجد النظام المتشدد في ألمانيا . فهنا أناس يعبرون الطريق بدون أن يهتموا بألون الإشارة هل هي حمراء أو خضراء أو صفراء , أو حتى زرقاء . فهذا ينطلق من بين السيارات العابرة , و ذاك يمر بسهولة من بين السيارات المزدحمة , و مجموعة يتفرقون من بين السيارات المتوقفة عند إشارات المرور الشاخصة .أما أصحاب التاكسي و السيارات العامة , فالكل مسرع من أجل أن يلحق على العبور قبل أن تتحول من الصفراء إلى الخضراء , و إن لم يلحق فأيضاَ لن يتوقف . فبعرفه أن الأمر لا يستحق أن يكبح جماح سيارته المسرعة بسرعة الضوء .و ذاك قد جمع أولادة في مقدمة السيارة و أولاد حارته و خالته و أبناء الحي ألاتيني بأجمعة , و ليس هناك من يطارده ليقول له : أنت مخالف للأنظمة لأن ابنك الصغير لم يركب بالخلف . هذه باريس قد تخلصت من عنف النظام المتشدد , و عاشت مثل أي حياة من حياة البشر فيها النظام و فيها الخطاء , حقاً لقد عشت اياماً سعدت بهذا التحول بعد تعسف النظام الألماني المتشدد – وجهة نظر أحبها – و لا أتحمل عواقبها لغيري .
في باريس …وجوه مختلفة , دول مختلفة , قارات مختلفة , مذاقات مختلفة , ملابس مختلفة , عالم آخر …آخر… آخر…اعلم أنني لم استطع توصل الفكرة فكررت آخر …فرجاءً صدقوني .
في باريس …للجمال لمسة , و للذوق نغمة , و للحس المرهف نسمه , و للحسن طله , و للإبداع نظرة , و للوجوه بسمة .
في باريس …تشدك الوجوه الأفريقية السوداء , و تلفت انتباهك العيون الأسيوية , و تستغرب التفاوت الأوربي الظاهر .
في باريس …و في وقت الشتاء المتجمد تلبس المدينة الحشمة , و برغم ذلك يبقى نزر يسير من النساء يأبين إلا أن يبقين خارج المألوف . فتصاب بالبرد و الزكام من رؤيتهن يتمخطرن بملابس حاسرة , و تراها للستر خاسرة , و نفسي على الفضيلة متحسرة .أنظر إلى نفسي رغم ما حملته أكتافي من الملابس الصوفية البلدية المتينة و القوية , ثم أنظر إليهن فأحس بالرعشة تنفض جسمي أجمعه .يالهن من صبورات…في سبيل تطبيق الموضة الزائفة …فإن لم تستح فأصنع ماشئت !!
في باريس …كانت أعتقد إنني سوف أمشي في جادة الشانزلزيه على المرمر , أو حجر مصقول مذهب , أو رخام براق يلمع .و لكن وقفت أكثر من مرة بين المسلة المصرية و قوس النصر لأمسح أحذيتي المتسخة من الأرض المبللة من قطرات المطر المتبقية من الأمطار المتساقطة ليلة البارحة . و ليس السبب سوء التصريف , أو غزارة الأمطار . بل السبب أن الرصيف الجانبي لبعض الشانزلزيه مرصوف بتراب أو ببطحاء فأصبحت الأرض قابلة للبلل . فهل يعقل أنني في جادة المليارديرات . أو في أشهر جادة على وجه ارض , هل من المعقول أن عدة باريس السابق و اللاحق لا يعلم أن ارض شارعهم الرئيسي أصبحت ” زلط ” حتى أنها أصابت حذاء الشاب النجدي بالاتساخ .و لو سألت المغرمين بسماء باريس عن هذا النقص الواضح الظاهر . لقال ألم تعلم أنهم يحبون البساطة , و أن من طبعهم عدم التمظهر بزيادة . و يحاول أن يجد لهم ألف عذر , فكأنه يدافع عن أهله أو جماعته . و برأيي أن شارع التحلية في الرياض أفضل و أرقى و أجمل من شارع الشانزلزيه كتجهيز في البنية الأساسية للطرقات .أتمنى أن لا أكون قد تدخلت بخصوصيات الغير .
في باريس …تبقى المسلة المصرية رمزاً عربياً يشدنا بوجوده و أسمه , فرغم أنه نصب تذكاري و لكن يبقى الحنين لأرض العرب يحرك في النفس بواعث السرور و الفرح .
في باريس …كانت السماء اليوم ملبدة بالغيوم , و الأرض مبللة بالقطرات , و الأشجار قد ودعت منذ أشهر الأوراق , و ماتبقى منها فهي صفراء و قريباً سوف تلقيها في الطرقات .و في شوارعها اقفز هنا و هناك , و أتنقل هنا و هناك . لا ستكشف باريس بتفاصيلها , باريس التي تجولت فيها عبر أزقتها قبل أن أزورها و ذلك من خلال الأدباء الذين كتبوا عنها . و عرفت معالمها قبل أن يتحدث المرشد السياحي باسمها فقد حفظتها بالمرة , بل بالمرات . و تجولت في متحفها المفتوح في كل مكان .
باريسيات
في باريس …سكنت في مسكن صغير بسعر 60 يوغو – بنطق أهل ألمانيا – و سافرت بالقطار بسعر 98 يورو , و شربت الشاي بسعر 6 يورو, و رأيت تفاحة بسعر 5 يورو , و علمت أن الكافي بسعر 12 يورو , و طلبت البتزا بسعر لا أعلمه فقد أنسانيه الجوع . عندما تسافر إلى أوربا لا تقارن اليورو بالريال و إلا سوف تموت جوعاً , و تسكن في ظل شجرة , و تتنقل على بغل أعرج .
في باريس …إياك , ثم إياك , ثم إياك ..أن تسافر إليها بالسيارة, فالمواقف شحيحة , و إن وُجدت فأسعارها غالية , فقد تكون أجاراتك اليومية لموقف السيارة أغلى من السكن , و إن تجاوزت كل تلك المشاكل , فلن تنجو من قيادتهم الفوضوية المتهورة . لذا فقطارات الأنفاق هي الحل الأمثل لباريس . و هي الاختيار المناسب للمدن المكتظة مثل باريس و فينا , فكل طريق من طرقات قطارات الأنفاق يؤدي بك إلى معلم مشهور , أو يوصلك إلى مكان معلوم .
في باريس …لا تستغرب إن رأيت الوجوه التي تراها على الشاشة ماثلة أمامك بشحمها و لحمها – خلك ثقل – ففي الشانزليزيه , شيوخ الخليج , و نجوم السينما , و كبار الأدباء , و مشاهير الكورة . لا تطاردهم بنظراتك , فتتعب عيونك من ذلك . فلا تستغرب إن رأيت رجلاً يمشي لوحده ,أو مع حاشيته , أو بجواره زوجته على أرصفة الشانزليزية , ثم يأخذك التفكير و تقول بنفسك… لقد رأيت هذا الرجل منذ قليل.. و لكن أين ؟! نعم لقد رأيته على غلاف أحد المجلات , أو في أحد المباريات , أو ضمن أخبار القنوات . اعلم ذلك , و لا ترتبك إن جاوروك بالمقاهي الراقية , أو صعدت و إياهم في المصاعد المؤدية إلى الغرف في الفنادق الفخمة .
في باريس …تجد أن بيوت الأزياء تتنقل من دور العرض إلى الشوارع , فالملابس الغريبة الفضفاضة , و الجاكتات الأنيقة المفصلة بدقة و أناقة , و اللمسات الرائعة الناعمة , و غيرها من الملابس التي تجعلك تنظر و تتعجب بشدة , هل هؤلاء حقاً يلبسون بقناعة …أما أن شد الانتباه هو المقصد الأول . لا تفكر !! فإن أخذك التفكير بمثل هذه الأشياء . فسوف ينقضي الوقت عليك , و أنت لم تشاهد أهم معالم باريس , البرج أو قوس النصر . – بمعنى صحيح لا تدقق – .
في باريس …قد تجد فتيات الخليج و قد تزين بكل زينة , و لبسنا كل ملبس حسن , و خلعن ملبس الحشمة و الطهر . و استبدلن زينة الآخرة بزينة الحياة الدنيا الفانية . فتجدهن وقت الصباح بملابس . و في الظهيرة ملابس أخرى , أما وقت المساء فالفن كله في المساء , و هل توقفن عند هذا الحد . لأ….بل صبغن الوجوه بصبغات مختلفة , لتخفي آثار شمس الجزيرة المحرقة , أو تغير ملامح وجههن المتعرجة , أو يلفتن نظر الناس إليهن . فيكن محل للشفقة , و الرحمة , و الرأفة . فهن يحملن في وجوههن أصباغ من كل نوع , أصباغٌ من أشهر الماركات العالمية …و لكن هل يصلح العطار ما أفسده الدهر…لا أعتقد . لأ ..بل أجزم بذلك أنه لن يصلحه حتى و لو أجتمع كل العطارين .و لعلي أكن صادقاً و دقيقاً في الوصف , أن حديثي عن البعض الذي ذكرته لا يعني الحكم على الكل .. فهناك نماذج مشرفة …فاللهم ثبتنا و إياهم .
في باريس … لبعض شبابنا اثر حسن في التنظيم , و الاكتشاف , و السياحة العصرية الحديثة . و لكن يبقى البعض من شبابنا – هداهم الله و حفظهم من كل شر – تجدهم في يتمركزون المقاهي و بين المطاعم يتنقلون , يتنقل من مكان إلى آخر, بيده جهاز جواله , و قد أعياه التراسل عبر البلوتوث , أو قد أتعبه تصوير كل شاردة أو واردة من بنات بلده , فتجده قد سهر ليله و نام نهاره . و بدأ يستعد منذ أن فتح عينيه من نومه ليلبس أحسن زينته , كيوم زفافه أو أشد زينه . و ما ذاك إلا ليضع رجل على رجل في أحد زوايا المقاهي , ثم يصير ..همه… كل همه.. أن يفتح عينيه بكل طاقتهما , و يشبع فضوله الذي استجمعه منذ سنة , منذ أن غادر باريس في السنة الماضية , ليوزعه على من حوله بنظرات تكاد تخترق الملابس .
في باريس… للكشخة مكان من روادها من أبنائنا في هذا الزمان , فهم يشترون الموضات و ينافسون بذلك الأنيقات من البنات , و لولا آثار موس الحلاقة لبصمت من جميل أصباغه , و بديع هندامه أنه فتاة في ليلة فرحها . فهمه…كل همه أن يلبس كل جديد ,أو غريب من خطوط الموضة فيبهر من حوله بمنظره . و يعود من باريس بذكريات جميلة عن شارع الشانز و كم قابل فيه من ” فتاة لعوب ” …فتاة لم تفهم أن القيم هي القيم , و أن الحياء هو الحياء , و أن الله في كل مكان , و لم تعي أن الأحسان هي أعلى المراتب من الأيمان , فهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ..و زد على ذلك أنهم لم يفهموا كلهم معنى السياحة الصحيحة . أو يعودوا من تلك الديار و قد شاهدوا أشياء جديدة , أو تفتحت عيونهم على معالم تاريخية قديمة , أو استنارت عقولهم باختراعات تلك البلدان الكثيرة .أو على الأقل سلم منهم كل محافظ من و لتلك البلدان زائر . فنحن لا نريدهم أن يكونوا كأمثال سياح اليابان , يكتشفون المكان , فيتعرفون على كل صغيرة أو كبيرة من البلد , و لا نريدهم كالسياح الأمريكان بأيديهم خرائط , و لديهم أوقات منظمة للنوم و الطعام و التنقل . فقط نريدهم أن لا يذهبون إلى باريس و يتسكعوا في أماكن المليونيرات , و يدخلوا مقاهي أهل الوجاهة من رواد باريس من العالم , ثم نجدهم يسيئون إلى سمعتنا بتصرفاتهم الفجة , و يخجلوننا بطرق معاكساتهم السامجة , و يحرجون أهلهم و أنفسهم بطرق صرفهم , أو إسرافهم , أو تبخترهم أو عنجهيتهم في بلاد لا تقبل مثل هذا النوع من التصرفات المخالفة . مشهد يحزنني كثيراً , أن أجد شاباً قد اتكأ في أحد المحلات الأغنياء الفخمة و قضى ليله هناك و نهاره , و قد تكون كل تكاليف سفرته عن طريق سيارة داتسون قد قسطها فأكلت كل ماله .
في باريس …ذهبت لمطعم عربي خاص بعمل الفطائر و البيتزا , و قلت له : هل مأكولاتكم تحتوي على لحم خنزير . فقال نعم فهل تريدها بلحم الخنزير؟! فقلت له : لأ ..إنما رأيتك عربي و استبعدت أن يكون لديكم ذلك …طلبت طلبي و جلست في زاوية لوحدي , و الناس تنظر إلي و في رؤوسهم ألف تساؤل . و عيونهم تحمل ألف علامة استغراب و استفهام ؟!! و كلها تدور و تتحدث هل من المعقول أن يأتي شخص إلى باريس لوحده ؟ و بدون أن يكون معه شريك عمره . و لقد وجدت مثل وضعي يلفت إنتباهي عيون الأوربيين , فأجد فيها علامات الاستغراب في كل مكان . ففي ألمانيا عندما كنت أذهب إلى النزهات مع بعض الأصدقاء من جنسي , كانت نظرات الألمان تبدي الأستغراب و على طريقتهم الخاصة و تدور فيها الشكوك . هل من المعقول أن يخرج شخص مع رجال مثله . و لما ذهبت إلى فرنسا و بدون أصدقاء و بدون الزوجات لم تختفي هذه النظرات . و لقد تذكرت الطرفة التي تحكي أن لص وقف أمام القاضي و قد وضع يديه في جيبه , فنهره و غضب عليه القاضي , فقال أخرج يديك من جيبك . فقال اللص : وضعناها في جيوبنا فغضبتم , و وضعناها في جيوب الناس فسجنتمونا . فمثلي و مثل هذا الرجل هي تلك النظرات التي تلاحقني , سواءً كنت لوحدي أو معي بعض صحبي . فكل نظراتهم هي عتاب صامت . و لا أعلم هل ريحانة نجد أسرت إليهم أنني لم اصطحبها معي . فكان العتاب ظاهراً عليهم .
في باريس …وقفت أمام معالم كثيرة , و هذه المعالم متنوعة و مختلفة , و تحكي مجالات شتى من فنون الحياة , فهناك برج إيفل بتصميمه الرائع, و ارتفاعه الشاهق , و منظره الجذاب ,و بعدد سياحه الهائل , الذي وصل في أحد الأعوام إلى 6ملايين . و من بعده متحف اللوفر بلوحاته و تماثيله و مقتنياته العالمية , و بلوحته الملونيزا الشهيرة , فهو متحف كبير يقبع على مساحة وقدرها 13 كيلومتر . و في ناحية من باريس تجد الحي اللاتيني بعراقته , و جامعة السوبرون بتاريخها . و على حدود باريس أقيمت مدينة ديزنيلاند بصبغتها الأمريكية . أما القوس الشهير قوس النصر فإتخذ وسط المدينة مكاناً له . أما القصور فقصر فرساي يتربع في أحد ساحات باريس .أما الشهرة الاكبر فقد نالتها جادة الشانز الذي يشق العاصمة من ساحة الكونكورد التي تحتوي على المسلة الفرعونية إلى ميدان شارديجول الذي يحتوي على قوس النصر , فهذه الجادة تحتوي على ثكنات لأجمل الماركات العالمية – اللهم عافنا و أبعد زوجاتنا عنها- . ايضاً يتبختر في أوساط العاصمة نهر السين و الذي يعتبر ميناء نهري يجعل العاصمة تستفيد منه بنقل البضائع عبره , و هو أيضاً مكان للنزهة لمن أراد أن يتمتع برحلة نهرية تجعل المرء يقضي أوقات نزهة رائعة , فمن خلالها يشاهد كيف تصطف المباني التاريخية على جوانب النهر بمشهد فاتن , و كأن السائح أمام عرض سينمائي . إن كل معلم تقف خلفه جبال من المعلومات , و لو أردت أن أطرح عليكم كل تلك المعلومات لن يكفيها كل هذه الصفحات , و لكن سوف أعرض عليكم بعضها من خلال هذا الموضوع .
في باريس …وقفت أمام برج إيفل , وقفت أمام أكوام حديدية هائلة , و نظرت إلى أعلاه فوقف فبصري في منتصفه أو أدناه , فعلوه شاهق , و إرتفاعه عظيم .و حتى تستطيع أن تنظر إلى أعلى نقطة منه يحسن بك أن تستلقي على ظهرك . و هو من أهم معالم باريس , فرغم ماتشتهر به باريس من قصور أثرية , و لوحات فنية , و مناظر طبيعية . لكن يبقى للبرج عامل جذب رهيب لزائر باريس . و الغريب أنه كان هناك الكثير من المعارضين الذين كانوا لا يؤيدون إنشاءه في الأصل بعد أن طرحت الفكرة . و ذلك بدعوى أنه سوف يشوه باريس .
في باريس …وَقَفت تحت البرج , فنزل أيضاً اثنان من الجنود الفرنسيين – ورانا ورانا -و هم يحملون أسلحة مهيبة . و نظراتهم تبحث عن شيء يبعث على الريبة . كانت حركاتهم تبدأ من أول البرج حتى آخره . و لعل احتفالات آخر السنة الميلادية تجعل التشديد الأمني على أشده . و لعلني خفت من هذا المنظر الذي تكرر , فغصت وسط الزحام لأحس بالأمن .
في باريس …نظرت إلى البرج بتعقيدات حديده , و عوارضه الغريبة . و نظرت إلى طوابير هائلة تنتظر أن تصعد إلى أعلى البرج , حيث تستطيع أن تحظى بنظرة بانورامية رائعة لباريس , و لمسافة تخرج عن دائرة حدود المدينة , و ذلك عبر المصاعد الكهربائية التي تستعملها برسوم محددة و بأوقات مقننة , أو لك أن تصعد عبر الدرج و بالمجان , و لكن لا تفرح كثيراً فإن ثمن ذلك قد يكون أدوية تعالج الشد العضلي جراء صعود ألوف الدرج للوصول لقمم البرج . و إن صعدت فسوف تظهر لك تقاسيم باريس , و تلمح قصورها , و الشوارع الممتدة من أولها إلى آخرها , و الأنهار التي تجري من تحتها , و تظهر لك العمائر كمجسمات صغيرة , و من حولها بشرُ يدبون كنمل يتحركون .
في باريس …نظرت إلى الطوابير العظيمة التي يطمح المصطفين خلالها أن يصلهم الدور من اجل أن يركبوا المصعد الذي يؤدي إلى الأدوار العليا من البرج , و لينعموا بالمطاعم التي تنتظرهم في أماكن عدة من فوق ذلك المرتفع الهائل . فلما نظرت إلى طول الطوابير , و كثرة المصطفين يئست أن أكون ممن سوف يرحب بهم في مطعم البرج . و ممن سوف يرجع خفيف المحفظة بعد أن ينعم بوجبة دسمة , وينال أصحاب المطاعم يوروات متعددة . ولكن من أراد الحل فإن هناك بعض العرب المقيمين في باريس يصطف بالطابور بالتأجير , فتذهب إليه و تعطيه مبلغ معين ثم تذهب برحلاتك خلال وقت الطابور , فيعاود الأتصال بك إذا أقترب الدور عليك لتأخذ محله , صحيح إن العرب ماخلوا شيء . – المعلومة مقتبسة من خلال خبيرنا أبو يوسف –
في باريس …تم استخدام برج إيفل للبث التلفزيوني , و البث الإذاعي , و مختبر لعمل بعض التجارب الفيزيائية عن الجاذبية الأرضية و قوى الحركة . و يتم أيضاً يتم صبغ البرج كل سنتين ويستمر العمل بادهان لمدة أشهر , و يستهلك بأطنان من الدهانات , و ذلك لحمايته من الصدأ .و يعمل على ذلك فريق متخصص مدرب .
في باريس …يقع برج إيفل بوسط ميدان تروكاديرو , فمن هناك يمكن التمتع بالمتاحف الموجودة داخل البرج , فأحدهما يحكي قصة إيفل و الآخر يحكي تاريخ البرج . و مع متعة العقل أيضاً تستطيع أن تمر على المطاعم المنتشرة فتزيد من متعة البطن .
في باريس …يفخر أبناؤها بأنها مدينة النور , حيث كانت أول مدينة أوربية تضاء طرقاتها بالفوانيس عبر الجاز . ثم حور هذا التعبير في الوقت الحاضر ليعبر عن أضواء المدينة في علوم شتى , و معارف مختلفة . و لكن لأسف أنها صارت في هذا الزمن قبلة لبعض أبناء العرب و المسلمين في كافة جوانبها الحسن منها و السيئ .
في باريس …يُرفع دائماً شعار الدولة ( حرية – إخاء – مساواة ) , و هذا ينطبق على فرنسا و باريس و بصدق و بكل ماتعنيه الكلمة , و يطبقونه بشكل تام , و لكن هذا الشعار يشمل جميع الاتجاهين السلبي و الايجابي , و هذا العرف الذي يتبنونه قد يكون غريباً على الآخرين و لكنهم يستمتعون به . حتى أذكر أن سبعة لاعبين أساسيين من منتخب كرة القدم لفرنسا و الفائز بكأس العالم لا يعرفون النشيد الوطني الفرنسي . و هم من أصول غير فرنسية . قد تكون مقولة صحيحة , أو مبالغ فيها بعض الشيء , و لكن تقبلوها و لا تنقلوها .
في باريس … تكثر المقاهي الثقافية , و التي تحظى بسمعة عالمية , و هذه المقاهي تعج بالرواد على طول السنة , و إن كانت في فصل الصيف تعتبر ملتقى للطبقات الثرية أو الثقافية أو أصحاب الشهرة العالمية , فقد تجد شيوخ و أمراء الخليج , و أدباء العالم ,و مشاهير الفن و الكورة , فلا عجب أن تجد ماكنت تراهم من خلف الشاشات الفضية بجانبك في أحد طاولات تلك المطاعم . و ابرز هذه المقاهي التي سكنت في جادة الشانزيلزيه مقهى LeFouquets (الفوكتيس باسم صاحبه ) أو الفوكيت و هو الأشهر على مستوى العالم, حيث يقع في تقاطع جادة الشانز مع جورج الخامس , و يتيح تربعه في هذه الزاوية الرائعة بمنح زائريه بإطلالة كاملة لعرض تلك الجادة , خاصة لمن تستهوية الجلسة على الأرصفة الأمامية للمقهى , و أما من أراد الخصوصية ففي داخل المقهى و في الدور العلوي مكاناً مناسباً لهم , هذا الموقع أيضاً يخوله أن يعطي لزائريه نظرة رائعة كاملة لجادة الشانز من ساحة الكونكورد حتى ميدان القوس , و قد يظن البعض أنه لفظ مقهى على هذا المكان يعني فقط أنه لتقديم مايطلبه زبائنه من بغيتهم …لأ…فهو له بعد ثقافي آخر…, و ذلك بعد أن أنظم لدائرة الآثار الفرنسية , و أعتبر رسمياً ارفع مكان ثقافي في فرنسا , أيضا هناك مقهى”LaDur” لا دوريه على نفس الجادة . وقد حُدث أكثر من مرة . و هو يقل عن صاحبه و لكن أيضا له من الزبائن من لا يفارقونه في كل زيارة للعاصمة الباريسية .
في باريس …تتم احتفالات رأس السنة في كل ميادين باريس , فالبرج يتحول مكاناً للألعاب النارية . و الشانزلزيه يغلق أمام السيارات و يخصص للمشاة في أيام لاحتفالات باريس , و فيه تُقدم الجاليات الموجودة في فرنسا كافة عروضها الاحتفالية . ففي أيام أحتفالات رأس السنة تكون باريس تحت عيون الأعلام العالمي , و ذلك نظراً لاختلاف مهرجاناتها , و تنوع احتفالاتها , و كثرة الجموع السياحية التي قدمت إليها من العالم أجمعه . في تلك الجادة صخب و استعراضات عالمية . تبدأ تلك الاحتفالات مع ساعة الصفر للعام الجديد و نهايتها مع شروق الشمس , هيث تهدأ المدينة , و يظهر الشانزليزية بعد صخب الليل بشكل آخر . فالأرض ممتلئة بالزجاج الفارغ , و الكثير منها قد محطمة , و بقايا الاحتفال تنتشر في كل مكان , فيعيش عمال النظافة في حالة استنفار خلال النهار لكي يعيدوا للحسناء جمالها . و لتستعد باريس لأستقبال زوارها مرة أخرى عندما يستيقظون من سباتهم عقب سهرتهم . و يقدر عدد الذين يجتمعون في ساعة الصفر للعام الجديد مايزيد عن مليون شخص في جادة الشانز فقط .
في باريس …و أيام احتفالات نهاية السنة , كل شيء يضاء بالأنوار الملونة . فالأشجار تتلألأ , و المباني تظهر بأجمل شكل .فالكل يعلن الفرح بزوار باريس .
في باريس …المتحف متنوعة , و القصور رائعة , و المزارات و المعالم مدهشة , و تبقى الذائقة هي التي تحكم على اختيارات الأشخاص .
في باريس …زيارة المعالم الشهيرة لها ضريبة , فالطوابير الطويلة , تأكل الصبر , و تقضي على الوقت . فكل المعالم تحتاج إلى أن تقضي وقتاً ليس بالقصير بالطوابير المملة . فإن توجهت إلى قوس النصر , أو برج إيفل , أو قصر فرساي , أو متحف اللوفر . فتجد أمامك أمة بشكل طابور طويل متعرج يبدأ من بوابة المعلم و ينتهي إلى مالا نهاية , و عندما تنظر إلى هذا الطابور تجد أجناس مختلفة يمثلون دول شتى من بقاع العالم , و لا تسمع إلا قهقهات السياح ظاهرة , لتعبر عن سعادتهم بالوصول إلى هذه العاصمة , فهم يتلذذون بالتعب من أجل أن يحوزوا على نظرة لتلك المعالم المهمة .
في باريس …و في طوابير الانتظار , تجد مجموعات سياحية , شباب و فتيات , كهول و عجائز , ابتسامات و نظرات , أحاديث و ضحكات . و كل مظاهر الفرح تتبخر إن أطلت عليهم الشمس بأشعتها الحمراء , و كل ذلك يزول عندما يطول الانتظار , فتبدأ حالة التململ ظاهرة للعيان , حيث يبدء السائح بالوقوف على قدم واحدة , ثم يستبدلها بالأخرى , ثم يبحث عما يتكأ عليه , هكذا حتى تتحول المتعة إلى مشقة , و المشقة هي سبيل الحصول على المتعة .
في باريس …أمامك هرم زجاجي تبدو صورته من بعيد كبلورة براقة , أو جوهرة ملقية على الأرض , فعندما تشاهد هذا المنظر فتأكد أنك أمام متحف اللوفر , أو لعلي أصفه بشكل أفضل , فأنت أمام قصور و متاحف و حدائق اللوفر و توابعه . و لكن قد تجد شيئاً مميزاً أكثر عن غيره , ففي داخل المتحف سوف تجد زائري المعرض يقفون الوقت الطويل أمام لوحة الموناليزا .يتأملونها و يدققون النظر إليها . و كأنهم بفعلهم هذا يريدون أن يعيدوا القصة التي تحكي أصل رسم تلك الرسمة . حيث يقال أن الفنان دفينشي رسم تلك اللوحة خلال أربعة سنوات , فكان يماطل تلك الفتاة المسكينة ” الجيوكندا ” في استكمال رسمتها . و ذلك لينعم كل يوم برؤيتها , فمن يرى تلك الجوع تقف و تتأمل فيصل إلى إعتقاد أن زائري المتحف يريدون أن يتحققوا من صواب اختيار دفينشي لتلك الجميلة .المعرض للأسف لم أزره , و ذلك لأنه يحتاج إلى وقت لا يسعه برنامجي . فمن كان يريد زيارته فاليكن التخطيط هو طريقه للتمتع باستطلاع محتوياته . و أيضاً أقدم عذري للجيوكندا أنني لم أقف على صورتها و أتأمل ابتسامتها و التي هي سبب شهرتها . فكما قيل إن اللوحة لم تعرف ابتسامتها , هل كانت بمشروع البدء بابتسامة ؟ ! أم إنتهت للتو من ابتسامة!! و قيل غير ذلك …قيل أن الرسام كان يأتي لها بفرقة موسيقية ليعزف لها ألحان تعشقها ليظهر وجهها بأفضل صورة يمكن أن يرسمها . و قيل أنها كانت حامل في شهرها الأخير و ذلك سبب ابتسامتها الصافية , لم أتحقق من كل تلك الروايات , فلست خبير ابتسامات , أو عازف في تلك الفرقة , أو طبيب نساء و ولادة فأسمع عن تلك الأشعاة , و لكن يهمني شي واحدة فقط , و هو أنني أتمنى أن أكون قد وفقت أن أنزل السعادة إلى قلوبكم عبر هذه الوقفات .
في باريس …نلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة جديدة…
باريسيات
في باريس …خرجت مبكراً جداً , و قررت أن أزور الغابة القريبة من أطراف باريس , و لا أعلم هل هي غابة فانسن أو بلونيا . خرجت و بيدي خارطة تبين الطريق الموصل إليها , فدخلت أولها و نعمت بأجوائها الرائعة , فالا تسمع إلا حفيف الأشجار , أو زقزقة الطيور , أو خرير المياه المنساب من الجداول , أو أنفاس رياضي ثائر .وضعت باريس في الجهة اليمنى , و الغابة في الجهة البسسرى , ثم تعمقت بوسطها , و بعد أن وصلت إلى قلب الغابة أحسست و كأني بوسط لعبة المتاهات , تقاطعات غريبة , و أغصان الأشجار متماسكة . و الأرض بالمياه مبتلة . فدب الخوف في صدري , و لكن يصبرني و يربط على قلبي , عندما تنعشني القطرات , و تتسلل إلى رئتي نسمات الهواء الصافية النقية , فصدقت التسمية عن هذه الغابة ” مصنع الأكسجين لباريس “…
في باريس …شققت طريقي في وسط تلك الغابة , و كانت الأرض تخفي لي تحت أوراق الأشجار المتساقطة الكثير من بقع المياه الراكدة . و لم أختر الملابس و الأحذية المناسبة لخوض تلك التجربة , فتبللت الثياب و اكتشفت تهريباً خطيراً في جلدة أحذيتي حتى تبللت جواربي . كنت أنظر لمن حولي فلا أجد مد النظر إلا أشجار متماسكة و أرضية مكتسية بالأوراق اليابسة , و سماء مظلمة , و من تحتها سحب كثيفة , و يخيل إلي أن هناك شيء ما سوف يخرج لي من بين تلك الأشجار . أو هكذا أتوهم , أو رسمها عقلي , أو نسجتها أفكار الخوف التي أملاها علي عقلي .
في باريس …تعتبر تلك الغابة ملاذاً للمجرمين و اللصوص في العصور الغابرة , أو قطاع الطرق أو الهاربين من الأحكام في العصور الفائتة , فكان فكري يقول كيف سأنجوا منهم ؟ و هل سوف يصدقون أنني قدمت من أطراف نجد لأخوض مثل هذه المغامرة , مغامر سماع أصوات الطيور المهاجرة , أو هل تعتقدوا أنهم سوف يصدقون أنني استيقظت من الفجر في هذا الشتاء القارس من أجل عيون أخوة لي ينتظرون من تقريراً مفصلاً عن غابات باريس القريبة . و لكن قطع علي حبل أفكاري أن بان نور من بعيد , فكأنه يلوح لي بالنجاة , فآثرت ترك المغامرة لمن هم أهلُ لذلك و آثرت السلامة .
في باريس …” لا تحمل هم الأناقة بزيادة ” , فأهل باريس تبدوا منهم الأناقة بدون تكلف , و يظهرون بأشكالهم الطبيعية , بل إن اهتمامهم بملبسهم يقل عنا , و لكن يجملهم ما وهبهم الله من جمال المظهر , فأصبح أي لبس يظهرهم بمظهرٍ رائع . أما نحن فنشتري أغلى الملبوسات , و نختارها بعد تدقيق و تمحيص , ثم نقارن بينها و ننسقها , و نتفاجأ أنه لا تعجبنا بعد أن نلبسها , و نلوم كل من حلونا ’ و لا نعلم أن العيب ليس فيها , بل إننا نحن لم نخلق لها . فرأيي ..أن تكون بسيطاً …و لكن لا يفهم من كلامي أنني أدعو أن يكون المرء مهملاً لمنظره , رثاً في ملبسه , بل الوسطية هي النجاة , و الاعتدال هو المطلب , و الاختيار المتناسب و بغض النظر عن السعر هو من سوف يزيد من جمال منظرك .
في باريس …هناك حافلات سياحية تأخذك بجولة على أهم معالم باريس , و هناك نوعين من التذاكر .تذكرة تنتهي بيوم واحد , و تذكرة تستخدمها لمدة يومين , و لك أن تقف في أي معلم ثم تستخدم أي حافلة من حافلات الشركة السياحية التي تمر بتلك المعالم .
في باريس …من سوء حظك أن تأخذ رحلة سياحية عبر الحافلات في يوم ممطر , فجمال الرحلات السياحية أن تصعد إلى الدور المكشوف من الحافلة ,و تستمتع بهواء باريس , و تعيش لحظات تاريخية بين معالم باريس العالمية .و تحس أنك سائح عندما تمر بجمع سياحي عبر حافلة أخرى فتسمع كلمات الترحيب و تبادل التحايا من بعيد..فالنغمات السلامية مستمرة ..هاي هاي ..و شلونكم عساكم طيبين .
في باريس …ركبت الحافلة السياحة في وقت مبكر – كل برنامجي بوقت مبكر – , و اخترت السقف المفتوح كخيار مفضل للمشاهدة و التصوير . و لكن الأمطار كانت تغازلني كل حين , فأهرب منها ثم أعود على عجل عندما تتوقف عن التساقط .
في باريس …مررنا بساحات كثيرة , و بميادين عظيمة و بأماكن مختلفة و قصور شاهقة . حيث بدأت الرحلة من قوس النصر في ساحة شارديجول , فقطعنا جادة الشانزليزية , بإتجاه ساحة الكنكورد و حدائق التويلري الموجودة بالقرب منها . و تركنا خلف ظهورنا جادة لاجرانت أرمي و التي تمتد إلى الأديفانص خلفنا . هذه بداية الرحلة و هنا تكون أيضاً النهاية .
في باريس …كنت أخرج مع الطيور في البكور و أعود معها وقت الغروب , برغم أننا في فصل الشتاء و متأكد أن أغلب الطيور قد غادرة باريس مهاجرة لتبحث عن الدفء , و لكن مجازاً أقول ذلك . أخرج أول الناس من غرفتي و أعود أيضا أول الناس إليها . ففي فترة المساء و عندما تغلق المحلات أبوابها , عندها أرى أن باريس قد أوصدت أبوابها في وجهي , فيحسن بي أن أذهب إلى مطعمي , و أطلب بيتزا كبيرة جداً تتناسب مع عدد الكيلوات التي قطعتها مشياً على أقدامي .
في باريس …الناس هنا قد جاءوا ليبتسمون , فهنا كل الناس تلوح على وجوههم السعادة , و هذا ليس بمستغرب , فهذا الوقت هو وقت أعيادهم , و هم يحتفلون في وسط مدينتهم المفضلة . لذا لا تقبل باريس بأي صاحب تكشيرة .
في باريس …فندقي نظيف جداً و أيضاً منظم , فكأنه لم يسكن , بل الأثر الوحيد الذي يظهر من بعدي و من قبلي أنه مسكون أن اللحاف قد أبعد شيئاً قليلاً أثناء نومي . و ذلك لأنني أخرج مباشرة بعد أن أستيقظ , و لا أعود إلا لأصلي ، و أغير ملابسي , و أنتعش بدش يعيد لي طاقتي لأبدأ من جديد باكتشاف باريس التي طالما سمعت عنها .
في باريس …مررنا باليزأنفاليد حيث يحتوي على مجمع من القصور و المتاحف و دار عجزة و قبة مذهبة هي الأجمل من القبب المنتشرة بالعاصمة الفرنسية , و بالإضافة إلى ذلك هناك المدفعية و التي قد صفت على مدخله , يستخدم بعضها في المناسبات الهامة .
في باريس …أهم محتويات اليزأنفاليد قبر نابليون و عائلته . و المجمع يفتح في أوقات محددة من السنة . – نرجو عدم السؤال عن لم أزره و لم يتسنى لي النظر إلى قبر نابليون الذي أشغل العالم –
في باريس … المعهد الإسلامي (وفيه أكبر مساجد باريس) ، ومعهد العالم العربي.. وفيه مخطوطات قيمة , و تقام فيه ملتقيات عربية و ثقافية , و احتفالات عامة . و بجوارهما حديقة النباتات الرائعة و معروضات معدنية و حديقة حيوانات . و هذه المعرض أيضاً لم يتسنى لي أن أزورها .
في باريس …بحثت عن المحلات المشهورة للماركات العالمية للملابس الرجالية , و ذلك وفاءً لتوصية من أحد الأصدقاء , الذي أوصاني أن أزور محل الماركات الفلاني . حيث قال أنه يحتوي أجمل و أرقى الملبوسات العالمية من قمصان و بناطيل . و لقد سألت الصديق العزيز فقلت له : و مالذي يميز الماركات عن غيرها من المحلات العادية , و خاصة أننا نحن عرب و قلما نلبس تلك الملبوسات إلا بالسنة مرة أو مرتين , و لو كان البحث عن الماركات من الجزم لقلت أن الطبية هي حاجة ملحة و قوية , و لكن قمصان و بناطيل ماركات هذا شيء فيه نظر . فقال أن فيها أشياء كثيرة رائعة سوف يأتي وقت مناسب لأحدثك عنها , و من حسن حظي أنه لم يأتي هذا اليوم…و لم افرح يومُ بجهلي إلا تلك الساعة . وسوف يأتي يوم بإذن الله أحدثكم عن مكانتها و مميزاتها عندما يحدثني صديقي عنها . أعلم أن فضول البعض قد يقول …هل اشتريت له ما طلبه , فأقول : لقد سألت عن الماركات التي طلبها , فكانت الأسعار متقاربة . فنجوت من مضيعة الأوقات لتتبع الموضات .
في باريس … لم أكن يوماً من الأيام مهتماً بالتاريخ الأوربي الحديث أو القديم , لذا لم يكن يلفت انتباهي جورج الخامس أو جورج السادس , أو حتى جورج الثلاثون , و لم أعقد حاجبي أبداً لا متهولاً أو مستغرباً عندما أرى تمثال فليب و قد حسر عن صدره و أمتشق سيفه و هو يقف بجانب فرسه , و لم تكن تتحرك نفسي مثقال ذرة عندما أرى نابليون و قد لبس لابة الحرب , لم أكن مهتماً بذلك لذا كانت التماثيل التي تمر علي أو أمر عليها لا تستوقفني , و كنت أتململ من توقف الحافلة السياحية حولها , أو شرح المرشد السياحي عنها , لذا لا تنتظروا مني أن أعرض عليكم كيف تحولت فرنسا تاريخياً , أو كيف نشأ القصر الفلاني , و كيف أنقلب عليه جورج الثاني .
في باريس …تذكرت رواية الأيام و طه حسين , و كيف انتقل من حياة القرية ثم القاهرة ثم فجأة يجد نفسه في باريس الفرنسية , و كيف درس في جامعة السوربون و تعرف على فتاة عشقها من صوتها و أعجب برقتها و هي التي كانت تقضي معظم وقتها بطباعة بحوثه التي يقدمها , و في أحد إجازاته التي قضاها في بيت أهل تلك الفتاة في الريف الفرنسي , تقدم لخطبتها , فلم توافق مباشرة , و لكن بعد فترة أبدت رغبتها بالاقتران به . هناك تذكرت ..رحلة البعثة المصرية الأولى بقيادة رفعة الطهطاوي , و كيف كانت التحولات و كيف انقلبت الموازين على المبتعثين . هناك عشت لحظات البؤساء , فلا زالت بعض لحظات تلك الرواية أعيشها لحظة بلحظة , و دقائق محاكمة التاجر الكريم من قبل التاجر اليهودي اللئيم في قصة أحدب روتردام تظهر لي بفصولها و ذلك عبر روايات فيكتور هيجو . و القائمة تطول و حديث الأدباء يعود للذاكرة عندما تزور أرضهم التي تغنوا فيها أو رسموا لوحتهم فيها .
في باريس … اعتمدت على برج إيفل , و اتكأت على قوس النصر , و أستظليت بأشجار جادة الشانز , و ركبت قطارات الأنفاق , و تمتعت برؤية القصور و الدور , و كل ذلك و كأني بوسط مدينة تاريخية , أو بحديقة مصغرة للمعالم العالمية .
في باريس …رأيت الطوابير الهائلة و التي تنتظر عند أبواب صالات السينما المشهورة , فالناس يتجمعون بساعة محددة ليقطفوا تذاكر العرض القادم و ليكونوا في المقدمة , فيختاروا الأماكن المناسبة . لم أكن عاشقاً لسينما , و لم أكن مهتماً بهذا المجال , لذا أفرح عندما أراهم طوابير طويلة , فأعتقد أن ذلك سوف يخفف علي الطوابير الأخرى من المطاعم و المعالم الشعيرة من باريس خاصة في مثل هذه الأيام المزدحمة .
في باريس …البشرة الفرنسية مميزة , فليست هي كبشرة الألمان بيضاء لدرجة عالية , و ليست كالأيرلنديين مشربة بحمرة , و ليست كالإيطاليين برونزية , بل هي خليط من هؤلاء جميعاً , بياض برونزي بحمره , فهم لهم ملامح خاصة , وجه دائري و تجد مسترسلاً عليه شعر قد صف بعناية .
في باريس … وجوه سمراء و بيضاء , شباب و كهول , أغنياء لدرجة الترف , و فقراء لدرجة تحت الصفر, صخب و هدوء, فخامة و حاجة , قصور تاريخية و أثرية و بيوت قديمة و مهترءة , أحياء راقية و أحياء وضيعة . هناك طرفي الحياة الأسود و الأبيض , السالب و الموجب . الحياة و الموت , القديم و الحديث , هناك المتناقضات مجتمعة , كالفرق بين الليل و النهار , كالفرق بين الغروب و الشروق . كالفرق بين الشرق و الغرب . لا تستغرب أن أكون قد كررت مثل هذا الحديث مرة أخرى , فقصدي أن المتناقضات كثيرة , فأردت أن أأكدها مرة أخرى , و لعلي في كل مرة أعيدها وذلك لظني أنني لم أصف متناقضاتها بالشكل المطلوب .
في باريس …تتسلل النسمات من بين ثيابي لتداعب جسدي , و تنزل قطرات الندى على خدي لتنعش وجهي , و تنزل مناظر الطبيعة على عيني لأمتع بصري بروائع المناظر من حولي . و أسرح بفكري فأخترق حصون , و أفك شفرات , و أحل عقد , و أحلل نفسيات , و كل ذلك من أجل أن أفهم طبيعة هذا الشعب الذي أعيش بينهم , و أنظر ماهو أثر معيشتهم وسط تلك التحفة الفنية على تصرفاتهم . و أجمع أثر هذه النعمة من الطبيعة و الهواء النقي على حركاتهم و سكناتهم و أعمالهم . كل ذلك حاولت أن أفهمه خلال فترتي القصيرة التي أقمتها هناك , و أعتقد أنني لم أحيط بكل شيء أريده , و أتمنى أن أكون أستطعت أن أحيطكم ببعض الذي أحطت به , ابتسموا إن كنتم لم تفهموا ما أريد … فحتى أنا أحس أنني لم افهم نفسي بالشكل الذي أريده…لذا سوف ابتسم ..
في باريس …مررنا بميدان البانثيون و قد نزلت وسطه كنيسة البانثيون , و هي بالقرب من الحي اللاتيني و قد خصصت كمقبرة للعظماء من الأولين و الآخرين , و بالقرب منها جامعة السوربون و بمواجهة حديقة لكسمبورغ .
في باريس …أو كما ينطقها أهلها ” باغي ” , أو كما ينطقها بعض العرب ” بباريز ” , أو أنطقها بأي شكل يعجبك , و لكن سوف تعجب بأشياء كثيرة , و سوف تجد ماوجدت ,فقد وجدت أشياء عظيمة و مهولة , فعندما أمر من جانب برج إيفل فإنني أتعجب من صنع المصمم إيفل و أقول : ياله من رجل خارق . و عندما أمر من جانب قوس النصر أتأمل التصميم و عمل الفنانين , و أتعجب من جمال رسمهم , و عظيم نحتهم , و كمال عملهم . و عندما أمر بالقبب المزخرفة , و الأقواس المذهبة التي تعتلي القصور و الكنائس فإنني أتأمل ماتحتويه من عمل رائع يدل على إتقان غير مسبق فأقول في نفسي : لقد قاموا بعمل لن يقدر عليه أحد غيرهم . هذا يحدث في باريس …أما مايحدث لي عندما كنت في زيلامسي النمساوية أو إنترلاكن السويسرية , فقد كنت أمر بالطبيعة الفاتنة , فأجد أن الشلالات تنساب من أعلى الجبال , ثم تتهادى على أرض خضراء , فأقول : سبحان الله , و عندما أرى الطيور مع البكور تخرج لتلتقط رزقها و تبحث عن قوتها , و هي تنشد التسابيح بشكل عجيب ..فأقول : سبحان الخالق الرازق , و عندما أجد جبال الألب و قد امتزجت بألوان الطبيعة , فقمم بيضاء ناصعة, ثم غابات كثيفة متماسكة , و من بعدها هضاب ممتدة خضراء رائعة , فأجد نفسي و بدون شعور أقول : اللهم إني أسألك الجنة , هذا الفرق الذي يجعلني أحب الطبيعة التي خلقها الله سبحانه و تعالى فتراءت لي بأجمل حلة , و تجعل الإنسان يعود إلى خالقة كل برهة , و يعود إلى فطرته التي خلقه الله عليها , هذه الطبيعة أفضلها و أسبح في رحابها , لذا لن أستطيع أن أقارن أو أحب باريس التي هي صنع البشر , كما أحب الأرياف و الطبيعة و ما تحتويها و التي هي صنع الله المباشر .
باريس …تحدثت عنها كثيراً في موضوعي هذا فلا يعتقد البعض منكم أنني رحال , أو عالم بكل الأحوال , أو زائر البلدان و الأمصار , أو الخبير الذي لا يشق له غبار , إنما هي معلومات شحيحة , مزجتها بكلمات ضعيفة , و خلطتها بصور طفيفة , فكانت الخلطة التي ترون أمامكم .
باريس …هي كالبلدان التي زرت , أنسى كل الأسعار التي بها أكلت , أو سكنت , أو شربت , و أنسى كل أسعار التذاكر للطيران أو القطارات , أو المتاحف , ولا أحرص على تسجيلها , لأنني عندما أمضي بعض الوقت بالتسجيل ,فكأنني أقوم ببحث سوف أقدمه لمنظمة الأمم المتحدة , بل أن لدي قاعدة أن الذي تنساه لا يستحق أن تذكره , فيكفيني المتبقي من المشاهد الجميلة التي أختزنها في صدري .
في باريس …أختر ما يعجبك , و تفحص رغباتك و هواياتك و محل عشقك و من معك في رحلتك , فلست ملزماً أن تقضي الساعات الطوال في الطوابير من أجل أن تقف على لوحة الملونيزا ثم تقف بضع ثواني و تنسحب , و لست ملزماً أن تذهب إلى كل المعالم و هي لا تروق لك , أختر مايناسبك , فلست ملزماً أن تذهب إلى مدينة ديزنيلاند ثم تعظ أصابع الندم على وقت قضيته هناك , و لست ملزماً أن تجلس في جادة الشانز ثم تتململ من أشياء لا تعجبك . و لست ملزماً أن تذهب إلى كل سوق ثم تحس بالضجر , أختر ما يجلب لك السعادة , فإن كانت السعادة أن تستلقي في الفندق من الصبح إلى المغرب فافعل ذلك و بلا حرج ..
باريس …كررتها كثيراً في حديثي في هذا الموضوع ” باريسيات ” فلا يعتقد البعض أنني مليونير أو ملياردير , أو تاجر كلمة أنطق الحروف مفخمة , بل أنا إنسان بسيط , سمع الناس يحكون عن جمالٌ فتون , و رأى الناس يسيرون إلى بلد الفنون , فآثر أن ينقل لكم صورة من هناك . فلست من أصحاب مقاهي الشانز , أو نزلاء فندق جورج الخامس , أو مرتادي مقاهي الفوكيت , أو من توقفت به طائرته الخاصة بمطار شارديقول , أو أتى ليأخذ نزهة بعد أعمال تجارته لمدة سنة , أو جاء ليستمتع ببرهة من الوقت بعد أن قضى الكثير من مشاغله في مجلس إدارته . إنما أنا إنسان بسيط , أنتظر آخر الشهر المهية , و فرحت بزيادة الخمسة بالمية , و منذ يومين كان عشائي طعمية . أنا إنسان بسيط و لكن أستغليت ظروف الدراسة أو الدورات العملية لأطلع على تلك البلاد . فبحثت عن ارخص الفنادق , و أكثر التنقلات توفيراً للدرهم و الدينار . و قارنت بين سعر التفاح في بيتي و سعرها في جادة الشانز , و عملت حسبة بسيطة فوجدت أنني لا آكلها في بيتي فكيف أنفق عليها يوروات عديدة في تلك البلاد البعيدة . هناك أعطي نفسي حقها و لكن بمايتناسب مع ميزانيتي التي خصصتها لها , فلا إسراف و لا تبذير . لا مفاخرة و لا تقتير .
في باريس …تغرب الشمس في فصل الشتاء بوقت مبكر , فأمضيت أول الليل في طرقات و متاجر باريس , فلما رأيت الناس يكثرون في ليل باريس عدت إلى فندقي . ألقيت تحية المساء على شاب تونسي وسيم يقف على منصة الاستقبال , فرد و بابتسامة مرسومة و بدقة على وجهه و هو يصرفها متجددة لكل زبائنه , اتجهت إلى المصعد , فتحت غرفتي , أمضيت بعض الوقت , اتجهت إلى مفتاح الأنوار , فأطفأت الأنوار . فأطفأت آخر شمعة عن مدينة النور , و ( تصبحون – تمسون ) على خير .
عذراً تبقى فقرة واحدة هل من الممكن أن أكملها – أعانكم الله على فقراتي -….فأقول : في باريس …أستلقيت على جنبي الأيمن في سريري , فهو كما تعلمون صغير جداً و مناسب جداً لأن تطبق السنة للنوم على الجنب اليمن . ثم سحبت علي لحافي , فبدأت أحلم بأحلامكم . و ما عساي أن أقدمه لكم . فأقول في نفسي سوف آخذ كل ما أذكره من جميل الذكريات و أسكبها في قلوبكم , سوف أجعلكم تمشون معي في طرقات باريس فأحس بأنفاسكم , و أسير بين سيقان الغابات , و أغصانها , و مروجه فأخاف أن يخدشكم بعض أطرافها . سوف أركب معكم قطارات الأنفاق و أرفع صوتي من أجل أن أسمعكم لحني , و سوف أرافقكم بحروفي إلى حدائق الزهور , و أقطف لكم بعض زهورها لتنشر العطر في صدوركم , و سوف تجدونني بزاوية من زوايا مقاهي باريس أتأمل الكون من حولي فأصفه لكم بشوق , و رغبة , حتى تتصوروه بالشكل الذي يجعلكم تتلمسوه بين أيديكم , و سوف أحاول أن أنزل عند عشقكم حتى أحبه أكثر منكم , و أصل إلى رغباتكم حتى أكتبها لكم كما تستهويه أنفسكم , و أبحث عن مكان هواياتكم و أروي الحكايات المنسوجة عنها لتعجبكم , سوف أجعلكم تبتسمون , ثم أغير الترنيمة فتضحكون , ثم أختار إيقاعات أخرى فتقهقهون , ثم أمر بكم على حياة البؤس فتحزنون , ثم أغير عزفي على أوتار جديدة من أوتار التاريخ أو المعالم فتنبهرون . كل ذلك من أجل أن أنوع لكم في قوالب الحياة الباريسية , كل ذلك من أجل أن أجعلكم تشاهدون باريس بحرفي و لكن بمايوافق عشقكم , و بما تحبه عيونكم . لقد كانت هذه أحلامي على سريري في باريس , فلقد عزفت بكل ما أوتيت من قدرة , فهل وافق عزفي ذائقتكم , أشك في قدرتي على ذلك …..و لكن بقي شيٌ لا أشك فيه ” حبكم ”
في باريس …انتهت الحلقات و بقي نسيم نجد , حزيناً على فراقكم
نسيم نجد
naseemnajd.com
قرأتها .. وقرأت خلالها تفاصيل باريس .. بكل حروفها وحركاتها الإعرابية
شكرا لك ,
أختنا الفاضلة / رحيل ~
سرني أن قرأت تفاصيل التفصيل …
و اسعدني أن كنتم في صفحاتنا …
فبارك الله فيكم و رفع الله قدركم…
معلومات قيمة ، وجهد تشكر عليه ، يبدو أنك لا زلت تخبئ الكثير في جعبتك ، اكشف لنا باقي الاوراق الجميلة ولا تخفها فنحن معك وبك .
محبوك في العالم
أخي الفاضل / ربيع العمر وايامه
أوراقي بين يديك
أما ماخفي منها فالوقت فقط يحول بيني و بين صحبي..
و بإذن الله أقهر الوقت من أجلكم
بارك الله فيكم
(لولا أن خشيت أن يقولا باللغة البلجيكية ” وش دخلك ” )
أضحكتني هذه الجملة … 🙂
مدونة جملية وفكره مميزة ,
إستمتعت هنا وهذه هي زيارتي الأولى _ لقد ميزت إسمك فهل أنت نسيم نجد في العرب المسافرون ؟!
شكراً لهذا الجمال ..
هذه اول زياره لي موقع رائع
وكاتب اروع ..
صراحه عشت معك الرحله
تقبل تحياتي
مرحبآ
انا اول مره اشوف موقعك واعجبني مره
آهنيك ومعجبه جدافي كتاباتك واسلوبك في السرد والصور اكثر من رائعه
وباااريس رائعه ومن وصفك رائعه اكثر
يعطيك العافيه
انا ارووح باريس كل سنه باريس ولا اطفش لان في لويس فيتون و بيربري و الشنزيليزيه و دزني لاند و برج ايفل وانا اقعد في باريس شهر و لندن شهر و
روما عشر ايام وفينا عشر ايام و فنيسيا عشر ايام و ميلانو عشر ايام و البلده الي اكرها امي تغصبني ارووح معها لجنيف وانا اخذ قطار واروح لبرلين خمسه ايام وا نا امووت فيي باريس موووووووووووووووووت
بصراحة من اجمل ماقريت عن مدينة الحرية نسيم نجد اشكرك من اعماق قلبي انت مبدع بكتابتك للباريسيات وتغزلك بها