زيلامسي المفقودة
من أسوء الأشياء أن تفقد شيئاً مهماً في وقت أنت بأمس الحاجة إليه…فكيف تكون المشاعر عندما تفقد الطريق الصحيح في السفر…و زيادة على ذلك ليس أي سفر ,بل في أرض غربة و مكان من العالم مجهول و بقعة بعيدة جديد عليك….فهناك يكون قد استُبدل الأمن خوفاً…و تحولت الألوان الزاهية إلى سواد حالك , و بلغ منتهاه من الظلام حتى يخيل إليك أنه لا شيء في الكون إلا اللون الأسود…و هناك تغيب عن العين جميع المناظرالرائعة و تغدو إلى مناظر فضيعة , تهابها النفس و يقشعر منها البدن….وهناك يتحول الجمال إلى أحمال على القلب….و تكون النفس غير النفس…
نظرت من حولي نظرة تأمل يشوبها شيئاً من الحذر…فأبحث في كل إتجاه لعلي أجد شيئاً يخفف من حزني , أو يرد علي تساؤلي الذي ينطق برغم الصمت الذي حولي … فهل أنا فعلاً فقدت الطريق إلى زيلامسي ؟!….صوت النفيقيشن يحرك اتجاهاته إلى طريق صغير ضيق ….و صدري يضيق مع هذا الاتجاه….نظرت من حولي …رأيت الشمس في كبد السماء….ثم نظرت إلى ظل الأشجار….كان ظل كل شيء مثليه…فحينها علمت أن الشمس إلى غروب…و أن صلاة العصر قد حانت…توقفت على جانب الطريق….و حددت الإتجاه الشرقي الجنوبي…نظرت من حولي… الجبال… الأنهار… الأشجار….السحاب…. كل ما يحيط بي من جمال و أمور عظام…فرفعت يدي إلى أعلى وقلت : ” الله أكبر “…مفتتحاً بها صلاتي العصر…نعم الله أكبر من كل شيء…. الله اكبر نطقتها و أحس بها تتردد بين الجبال ….الله أكبر لفظتها و أحس انها تسعد بها الأشجار….ألله أكبر وقفت تسمعها السحاب … الله أكبر سعدت بها الأجواء و الفضاء و كل تلك الديار…إن من أحب و أسعد اللحظات… هي لحظات صلاتي في أرض لم يُسجد بها لله سجدة…أتممت صلاتي…تحت نظرات السائرين من المسافرين و هم يستغربون …من ذاك الذي يضع رأسه على الأرض…فليتهم يعلمون ما بتلك الصلاة من سعادة….
ركبت سيارتي …بعدما أنهيت صلاتي….جال في نفسي ألف خاطره…. و لاح في ذهني ألف سؤال و سؤال…هل أتابع المسير ؟ … أم أعود إلى أدراجي …..توقفت….و تأملت كيف أن الله و بقدرته و بلحظة قد يقلب السعادة إلى تعاسة….و الأمن إلى خوف…و الأمل إلى حزن… لكن يجب أن لا تقف في طريقي عثرة صغيرة…أو أن أقع في كمين أول خطوة من العثرات المتوقعة ..فكل ذلك متوقع في سبيل من يبتغي المتعة و المغامرة , أو أختار أن يسير في سبيل الرحالة…فكان القرار أن أكمل المسير …
في كل أنحاء العالم يتقلب اليوم بين الليل و النهار ….بين الشمس و القمر….بين النور و الظلام…أما في تلك المناطق…فهناك ليل و نهار…و وقت آخر بينهما….وهو عندما تختفي الشمس خلف الجبال….فينفذ نورها من خلفها …
فيكون منظر الأرض مهيب…ليس بالليل دامس و ليس بالنهار ساطع…نور مع ظلام…هدوء يلف المكان….الأشجار ساكنه …تحس أن كل معالم الأرض تنتظر قدوم الليل أو وضوح النهار….
هناك و من بعيد تقبع جبال عالية….من يراها و الشمس من خلفها.. يخيل إليه أن الجبال قادمة إليه….و من فوق الجبال سحب داكنة تنفذ من خلالها أشعة الشمس الحمراء….الطريق ضيق و ملتوي…ويمر كمارد أسود ليوصلك إلى الجبال المخيفة….سمعت عن جبال الألب و ارتفاعها ….عن قممها… عن علوها…. لكن لم يخيل لي يوماً أن أقف تحتها….و أنظر إليها و هي شامخة بإرتفاعها…. بل و أن أتسلقها عبر ممراتها الضيقة ….إنها تجربة جديدة ….و بحالتي من الممكن أن تكون مخيفة …
بعد لحظات أحسست أنني بين أكوام من الجبال…بل أحسست أنني في كمين منها….من كل اتجاه عن اليمين و الشمال …من الأمام و الخلف…لا أعرف أين أسير ….و لكن أسير…بل إنني أسرع المسير….و لا أدري لماذا أسرع المسير…هل أريد أن أهرب من الخوف إلى الجبال المخيفة….هناك من بعيد نور سيارة قادم….أغبطه فقد خرج للتو من ظلمة الجبال…و نوره يشع و يقترب…فما هي إلا لحظات حتى تضائل نوره و انطفئ….و حلت الوحشة من جديد على أرجاء الكون…كان كل شيء ساكن…أحسست أن كبينة القيادة كبيرة و أن بيني و بين المقعد الخلفي مسافات بعيدة….وضعت المرآة على وجهي لعلي أجد من صورتي ما يخفف به من وحدتي…كنت أنظر إلى نفسي و أقلب عيني على من حولي…مررنا بمزارع و قرى كثيرة…كانت تلك المدن و القرى كمقبرة كبيرة….إنها مقبرة الأحياء….أو يخيل إلي كذلك…
الأبقار و أجراس الكنائس تدق صوت نواقيس الخطر في أذني…إنها تسبب الفزع في قلبي ….كأنها طبول الموت تدق بصوت قوي…و صوت القطار الذي يسمع دويه بين الجبال كمطارق تهز الكون و تهز كياني ….في أعالي الجبال الأكواخ منتشرة….و تلمع من بعيد فتيلة الضوء الذي يشع مرة و يخفت مرة…بحسب مرور الضباب من أمامه….فتصبح الجبال و كأن لها أعين ترمش و تراقب هذا القادم….
في القرى كان الناس ينظرون من النوافذ….. و لا أعلم لماذا ينظرون و هم صامتون …هل هم يرحبون بهذا الغريب الذي تاه عن الطريق ؟!….. هل هم يرحمون هذا الغريب الذي رمته حظوظه في هذه الدروب؟!…نظراتهم تزيد من خوفي….و أنا لا أملك من نفسي إلا أن أمسك بمقودي….و أسير عبر طريقي….و طريقي يقربني للجبال العالية….
أن تقود سيارتك و أنت محاط بجبال عالية لا تكاد أن تطالع أعلاها فذلك شيء مخيف…فكيف يكون الحال عندما تحس أنك أخطأت الطريق و أن الظلام يكاد يخنق الأنفاس ….اقتربت من الجبال و بنظري أن من المستحيل أن تجابه تلك الجبال العالية….
أخذت المنعطفات تقودني من قمة إلى قمة….وكل ما أستطيع أن أراه هي عدة أمتار من الأفق….هناك نفق طويل خيل إلي أنه فم لهذا الجبل المهيب….و كأنه يريد أن يبتلعني…..في آخره دائرة يشع منها نور الفضاء….دائرة صغيرة جداً و بعيدة جداً….من صغرها أراها كثقب إبرة فكيف لا يضيق نفسي و هذه هي نهاية مشواري….. ….
الأشجار من طرفي الطريق تمتد حتى تلتصق مع بعض مكونة بوابة مظلمة من نفق طويل ..بدايته معروفة و نهايته تلمحها عيني عبر نور ينفذ من بعيد…نور يعطيني أمل أن أصل إلى النهاية…. و بغض النظر عن تلك النهاية…لكن هل هناك أفضل من أن ينتهي الرعب بأي شكل …
و على الطريق….كانت اللوحات الإرشادية تبعث في النفس الرعب ….ففي كل عدة أمتار هناك لوحة تدل على منزلقات مائية… أو صخور متساقطة….أو منحدرات تؤدي إلى الهاوي….يكاد الظلام يطبق على كل شيء….و أكاد أنا و بسيارتي أن ألامس أعالي الجبال…هناك سحب منتشرة في كل مكان في أسفل مني و أعلى مني و عن يميني و شمالي …و لم أحس يوماً من الأيام أن منظر السحب الكثيفة مخيفة ….و أن أصوات المطر مرعبة….
في لحظة هي بعمر الزمن …كنت أنتظر أن أصل إلى أعلى الجبل….لعلني أكون في مرتفع و أنظر إلى الكون من حولي و أجد طريقي من جديد يبعث الأمل في نفسي…وصلت…نظرت…تأملت….و جدت هناك أنوار تتلألأ من بعيد….أنوار بسيطة لكنها مريحة….أنوار أرضية تتلامس مع أنوار النجوم الساطعة في السماء…أنوار كأنها تناديني….أنوار كأني أعرفها …لم ترها عيني من قبل… لكن قلبي يعرفها…مضيت فرحاً …بوجود تلك الفسحة من الأمل….أنوار سيارتي تسطع على لوحة زرقاء قد خطت بقلم أبيض فسفوري براق…كتب عليها ….زيلامسي 10 كيلوا….مع هذه اللوحة و في هذه لحظة ينقلب الخوف إلى أمن ….و تتحول جميع الألوان إلى لونها الطبيعي…فرغم سواد الليل الدامس…لكنني أرى كل شيء بوضوح….الزهور ,و الطبيعة , و الأشجار , و الأنهار…..
هكذا هي الحياة ….من يعيش في أمنها يجد متعتها و لو كان في أرض قاحلة…. و من داسته مخاوفها لم يهنئ بما تحويه من جمال براق …. مع هذا الأمل بدأت أعيش حياتي من جديد ….دخلت المدينة في الليل…دخلتها و أنا أخاف أن أيقضها من نومها…دخلتها وبهدوء…دخلتها و اخترقت الشارع الرئيسي فيها….مضيت إلى الفندق الذي حجزت فيه….وجدت في استقبالي ….عجوز من الغابرين….لكن هي في لحظة عودة الأمن ….تعد فتاة من أحسن الفتيات ….و ملكة من الملكات …كل شيء يبدو جميلاً عندما ينتشر بصدرك الجمال…ألقيت عليها التحية…تحية شخص غريب….ملؤها …الخوف….الوجل….. الخجل….ردت علي باستحياء….نظرت إلى وجهها ….الذي قد ظهرت فيه خطوط الزمن….فطلبت منها أن تسكنني بغرفتي المحجوزة…بانت على محياها ابتسامة…..و لا أدري لماذا أنا أحب ابتسامات العجائز….هل لأنها ابتسامة صادقة….أو أنني أقدر أن أرد عليها بابتسامة وبدون أن يكون هناك أي مجاملة….أو أنني أسر أن أجد من هم في مثل هذا السن قد أبقت لهم متاعب الحياة بعض النبض من الحياة و لو كانت بعض الابتسامات….أنا و بحق أنظر إلى كبيرات السن المبتسمات بنظرتين ….بنظرة حب ….لهذه الابتسامة التي انتزعت من بين أنياب الماضي ….و نظرة إشفاق…. عليها من أن تصاريف الحياة لم تبقي لها من وجهها الحسن إلا رسم ابتسامة تبديها على وجهها في كل حين للتعبر عن وجودها….فتحاول أن تعوض ما فقدته من جمالها ببعض ابتساماتها…. (هاه….كما عهدتيني من قبل يازوجتي ياريحانة نجد…تهزني ابتسامة عاجوز…..و لا أبالي بضحكة فتاة…..توقعون تصدق!!!)…طلبت غرفتي….حملت أغراضي …كنت بأمس الحاجة أن أعيد نفسيتي….و نفسيتي المنهارة أعرفها ليس من السهل إعادتها…فذلك يتطلب مني أن أعيد بعض عاداتي ….فتحت شنطتي نظمت أغراضي…تفحصت غرفتي
…نظرت مع الشرفة ( إذا كنت في زيلامسي تسمى شرفه…أما إذا كنت في بلدتي فأسميها بلكونه )…لم أرى شيئاً …وذلك أن صغيرتي زيلامسي قد أغلقت جفنيها فأغلق الشعاع على من حولها….و أغمضت عينيها فأصبحت كل الدنيا في ظلام….استعدت نشاطي بحمام بارد…..
جمعت أغراضي لأستعيد مزاجي بشراب ساخن….أحضرت وجبة سريعة من الوجبات التي ترافقني دوماً في رحلاتي…فهي رفيقتي في سفري و أنسي في رحلاتي ….
بعد لحظات كنت أنا بنفسيتي و نشاطي و بمزاجي …فتحت التلفاز…..صخب و غناء و أفلام و موسيقى ….وكلها لا تروق لي…فأنا ابحث عما يدخل السرور إلى قلبي….فكيف فبهذا الصخب و المجون….نعم وجدتها…..لبست ملابسي…نظرت إلى هندامي بمرآتي….أغلقت الأنوار ….خرجت لمقابلة أعز ….و أحب …..و أحسن….من تقابله في أحزانك…..لن أقول لكم من هو ….فأنتم أعلم مني به….فأنا ذهبت من غرفتي لأقابلكم عبر الإنترنت..
فكان الكمال مجتمع لي بين مشاعر أخوتي و أحضان مدينتي …..هناك و من على كرسي النت…بحثت عن إنسان عزيز أعلم أنه متواجد هذه الأيام هناك في زيلامسي…أرسلت رسالة لكي أصف له عنواني …فقلت له : أرجو أن ترد علي هذه الليلة لكي أتمكن من رؤيتك غداً…انتظرت الرد…لم يرد أخي و صديقي سعد….أحسست بفقدان فرصة لقاء عظيمة….رجعت إلى غرفتي….حاولت أن أنام لكي أقابل فتاة النمسا مع بزوغ الشمس….وضعت رأسي على مخدتي و وضعت الكثير من همومي…سحبت لحافي…على رأسي….بدأت أحلامي الجميلة من قبل أن أغلق عيني…..و من يرى زيلامسي ….يرى عجباً….وسترون معي عجباً….و لكن لا أدري هل ما سأرويه لكم هي أحلامي قبل أن أغلق عيني…. أم أحلامي بعد أن أغلقت عيني….أما الآن فأقول لكم …… تصبحون على خير .
نسيم نجد
روابط بقية الحلقات :
الحلقة الخامسة
www.naseemnajd.com
في الحلقة القادمة بداية البرنامج السياحي…فتابعونا
معذرة
فقد قرأت الأجزاء: الرابع والخامس والسادس لزيلامسي قبل الأجزاء الأولى
على غير ما أراد كاتبها
وذلك أول معرفتي بالموقع
ولكنني أعدت القراءة هنا بعد قراءة الأجزاء السابقة
فاكتملت الصورة
وازدان العقد
وبدت للقراءة آفاق أخرى
رحلة زيلامسي يحق أن تكون رحلة التفكّر والتأمّل
بوركتم
اختي الفاضلة / رحيل ~
حياك الله أختنا الفاضلة في صفحاتنا ..و و اعتقد أن الحلقات قد تكون متسلسلة و لكن غير مرتبطة أحداثها ببعضها , لذي قد يجعل المرء يمر على بعض الحلقات و قد يجد بغيته في محتواها و لا يؤثر عليه أن لم يرتب قراءتها ..و لقد سرنا أن أكملتم بقية الحقات و أن وجدتم بها بعض ما يستحق أن يقرأ , و تبقى بإذن الله تعالى حلقتين , فلعلي بنهاية الأسبواع استطيع أن أضع واحدة منهما بعد أن أعود من سفري . ثم أبدأ برحلة سويسرا و التي سوف تستغرق بإذن الله تعالى سبع حلقات متتابعة . أسأل الله العون و التوفيق و السداد للجميع .
بارك الله فيكم و جزاكم الله خيراً على مروركم .