الحلقة الأخيرة
اليوم الأخير كان عبارة عن رحلة مطولة لأماكن شهيرة لأبها البهية , فإن كنتم باشتياق لتتعرفوا أين كانت الجولة فاستعدوا لنعبر كيلوات عدة , و نعيش مناطق متفاوتة , و نتعرف على مناشط متباينة .
نهاية الرحلة كانت مشابهة للبداية ,حيث بدأت رحلتي هذا اليوم من على السفرة . حيث تفوح رائحة الفول و تنتشر في الشقة , و تعقبها رائحة الخبز الفواحة فتزكم الأنوف فيجبر الجميع أن تمتد أياديهم إلى الأطباق .
فكما بدأنا الرحلة في أول حلقة من مائدة الإفطار فنحن اليوم نختمها من مائدة الإفطار . فحيا هلاً بكم في رحلتنا في ربوع أبها …
البداية من منطقة الحبلة و هي منطقة تقع في أطراف مناطقة أبها , و قد كانت منذ سنوات قريبة تعتبر منطقة معزولة عن العالم , و هي قرية من القرى النائية تقبع تحت جبال عالية . حيث ينزل أهل تلك البلدة إلى بلدتهم بوسيلة وحيدة , و هي حبال ممتدة من سفوح الجبال إلى قيعانها . حيث تتواجد قريتهم التي عشقوها , و استحملوا الصعاب من أجلها , كانت عيشتهم التي اختاروها مناسبة لهم حيث يتسلقون الجبل في أول النهار ثم يجلبون حاجتهم و يعودون قبل الظلام . فلم يفكروا أن يغيروا من طريقتهم , أو يبدلوا عيشتهم . حيث تنتشر بيوت القرية تحت أغصان الأشجار , و يمر بتلك البلدة أودية تستسقي من الجبال المجاورة , و تحيط بهم مزارعهم الصغيرة التي توفر لهم الكثير من متطلبات الحياة . لذا فهم لا يصعدون الجبال العالية إلى للضرورة القصوى , أو لتوفير حاجات لم يستطيعوا أن يستخلصوها من بيئتهم . استمر وضعهم على هذا الحال سنوات عدة . حتى امتدت لهم يد الحضارة , و انتشلتهم من بقعتهم تلك , و أسكنتهم في أواسط المدن المحيطة . انتقلنا من أبها إلى الحبلة عبر طريق يجذبني و بشدة , و هو طريق الواديين , حيث يعجبني بتعرجاته و جميل بيوته . و لم يخلوا الطريق من مناظر المزارع المدرجة , و بعض القرى الصغيرة الرائعة , و الكثير من المساكن القديمة .
أيضاً لعل القردة كانت حاضرة في تلك المنطقة , فهذا موسمها الذي تنتظره , فهي تريد أن تستمتع بالموسم السياحي على طريقتها الخاصة , فمنها الاستعراض ومن الناس الأكل و الطعام .
وقفنا برهة من الوقت و كلي حذر من شقاوة تلك القردة , فإن تطعمها مرة فلن ينتهي الأمر …بل تريد منك أن تستمر , و إن انتهى الطعام فالويل لك ثم الويل . فلن تتركك بحالك , و سوف تقذفك بالحجارة , فيتحول المرح إلى حزن و غم . ابتعدت عن القردة و تابعت الناس و هم يطعمونها بأنواع الأطعمة …ثم بعد قليل و إذ بالقردة تصعد الجبل و تستمتع بالأكل و تترك البشر .
ولعل الباعة الذين ينتشرون على أطراف الطريق من أكثر الناس فائدة من وجود القردة ,فالناس تشتري الموز و تنفقه بلا هوادة على تلك القردة .
منظر الفاكهة المعروضة يغريك أن تتقدم خطوة لتنال سلة من الفواكه المشكلة , عرضهم للفواكه ينم عن ذوق رفيع ودراية كافية بكيفية جذب الزبون , فهم يعلمون أن العين تعشق كل جميل .
خرجت من ذلك المكان , و اتجهت إلى طريقي الموصل إلى الحبلة . وصلت هناك و كانت الشمس محرقة , و ذلك ليس بمستغرب فعلوا الجبال , و ارتفاعها جعلها بمقربة إلى قرص الشمس , مما نتج عنه هذه المناخ الحار , مع عدم وجود السحب , و توقف النسمات التي تنعش البدن .
كان لابد أن ننتقل إلى المطل , و لكن كل شيء بثمن , فدخول العربات برسوم معروفة , حيث تجد بالداخل جلسات مشرفة على بلدة الحبلة القديمة , و هذه الجلسات للأسف لا تفي باحتياجات جميع الزوار , و لا أعلم عن جمالها أو نظافتها , و لكن مظهرها يبشر بالخير, و أيضا توجد بالمنطقة المحيطة محلات مختلفة . هذه المحلات رغم فائدتها لزائري الحبلة , و لكن طريقة عرض السلع تبدو بشكل لا يهتم بالزبائن أو العرض المثالي . فلم تعرض بطرق العرض الحديثة , فأكوام من الملابس , أو البضائع على رفوف , أو طاولات المحل تبدو مبعثرة . و قلة التنظيم هي سمة من سمات تلك المحلات , مع وجود عامل قد أهمل محله , و أخذ ينظر يمينٍ و شمالاً , فكأنه يبحث عن شيء قد فقده , كل ذلك يجعل الناس تصد عنه . و تستغني عن خدماتهم المتهالكة . و رغم بعض العذر لهم بأن وقتهم موسمي , و فتح مثل هذه المحلات يتم في وقت محدد , و بخطوات سريعة , و لكن أعتقد أن العبث بنظرة السياح و عدم مراعاة شعورهم و ذوقهم تجعل المرء يعيد التفكير بالسياحة المحلية أكثر من مرة .
في مكان آخر يجلس عامل ينتظر الأطفال أن يقدموا له قسيمة الألعاب , فينهض متثاقلاً لتشغيل اللعبة , يدير المحرك ثم يرجع ببطء إلى مكانه , و كأن عقارب الزمن متوقفة رغم أن اللعبة متسارعة . لم يقطعه هذا المشوار , أو هذا العمل على أن يكمل حديثه مع صاحبه , فيرفع صوته لزميله الذي يجلس بالمحلات ليتمم مناقشة بعض أموره . جرس انتهاء الوقت المحدد ينبه العامل أن هناك أطفال يحسن به أن يفتح لهم باب الخروج , و أطفال أخرى قد حان وقتهم , و ينهض متثاقلاً ثم يذهب و الملل ظاهر من حركته . فيفتح الباب و ينظر إلى أطفال أخر قد حكم عليهم أن يدخلوا هذا القفص . فيبدأ دوران المحرك الخاص باللعبة بسرعة و كأنه أيضاً يريد أن ينهي الوقت بسرعة و يعود للركون مثل صاحبه العامل المهموم .
عندما تطل على مع جبال الحبلة , تجد أناس يهبطون عبر العربات المعلقة من سفوح الجبال إلى قيعانها , حيث توجد قرية شعبية في تلك المنطقة , و ستشاهد الناس و هم يتجولون عبر غاباتها الصغيرة , فيخرج من بين الأغصان رجال , ثم يتبعهم أطفال .
و عندما تمر ببصرك من تحت تلك الأشجار تجد عائلة قد استظلوا بظلها . و قد جلبوا جميع حاجياتهم معهم , إما أغراض طبخهم , أو بعض المشروبات الحارة التي تزيد من حرارتهم , أو الباردة التي تنشطهم و لكن في كلا الحالتين فإنها تؤنس جلستهم .
أما في أماكن أخرى إما تحت الجبل , أو في منتصفه , تجد مجموعة من الشباب قد عزموا أن يعيدوا تجربة الآباء و الأجداد , و ذلك بتسلق الجبل على طريقة أهل الحبلة , فقد ربطوا حبالهم في منتصف أجسامهم , ثم بدأ أكثرهم جرأة على المحاولة …
بعد لحظات تجد أن الذين عزموا على أكمال كل المرحلة من التسلق هم قلة . أما الأغلبية فقد آثروا النجاة و السلامة , فهل هناك أفضل من السلامة . هؤلاء الشباب , يدفعهم حب المغامرة , أو حب التجربة , أو الاستعراض .
و كل ذلك ليس بمستقبح أو أنه منبوذ إنما أمر محمود . و لكن الاعتراض أن تكون تلك المغامرة بدون استخدام وسائل السلامة لتسلق الجبال العالية .
فيظهر لي عبر منظار الكاميرا أن الجبال قد وضع عليه سلالم تساعد من يحب أن يمارس تلك الهواية , و لكن أخوتنا هداهم الله , يتسلقونها بثيابهم , و كأنهم في وليمة فرح , أو كأن العمر يكرر مع كل محاولة …
و لا يعلمون أن ليس كل مر تسلم الجرة , إنهم يخاطرون بحياتهم , و الخطر يحف بهم , بل يمشون على أطراف الجبال , و على جانب الهاوية , و بممرات ضيقة و على رؤوس أصابعهم …
وليس ذلك فحسب بل تجد أنهم يعبثون على بعضهم و هم بهذا المكان العالي . ثم يتبعون كل ذلك قهقهات و أصوات نشاز يتأذى منها كل من في ذلك المكان .
إنني و أنا أنظر إليهم أتساءل كم هي فجيعة أمهم بهم لو رأتهم في هذا المنظر , فكيف لها أن تتلقى خبر إصابتهم بسوء لو قدر الله لهم ذلك . كم أتمنى دائماً أن نهتم بمن ينبض قلبه لنا , إذا كنا لا نهتم بأنفسنا , و لا تهمنا أعمارنا .
ليس كل هذا حال الشباب , بل بعضهم يمارسها على أصولها . فتجدهم قد لبسوا اللبس المناسب , و أخذوا المواقع المناسبة للتسلق , و بدؤوا بممارسة هوايتهم , فهؤلاء نقول : أهلاً و سهلاً و مرحباً .
خرجنا من المطل , و ذهبنا إلى الأرض الممتدة قبل الجبل . حيث هناك مخيمات الشباب . جاؤوا من كل فج عميق , و نصبوا خيامهم , و تفننوا بوضع مخيماتهم . بينهم تنافس في كل شيء .
و لكن الذي لفت نظري أن لهم في السيارات شأن و عمل . حيث عزم أهل أغلب المخيمات هناك . أن يوقفوا سياراتهم على الحجارة , و أن يتفننوا برص الحجارة على إطاراتها .
فكلٌ و الميول التي ينتمي إليها , أو الهوايات التي يعشقها . فبعضهم يضع الحجر بلون نادية المفضل , و بعضهم يكتب على سيارته بالحجارة اسم منطقته و بلدته . و بعضهم يضع رموز قبيلته .
و لكن هم بشغل دائم . و عمل مستمر . و كل رضاهم أن تبتسم عندما تراهم . أو تستأذن لتصور أعمالهم . أو يشد الأعجاب أعمالهم . و كل ذلك لهم و نسأل الله أن يصلحهم و أن يسددهم و يهديهم .
في مكان قريب نصبت خيام ممتدة حيث . يوجد مجموعة من الشباب قد وضعوا صناديق زجاجية , و وضعوا فيها ثعابين مختلفة هي حصيلتهم لشهور عدة . الزيارة بخمسة ريالات , و تشمل الفرجة على الثعابين التي قد أهلكها كثرة الزوار و التصوير معها . فهي بمرحلة قبل الموت فقد تعاقب البرد و حر الشمس الذي نال منها .
فتجد الثعابين بعضها يسحب نفسه سحباً ليرضي زائراً قد دفع مبلغاً . أو تجده تفتح فاها ليندهش منها من قد عنا إليها و من بعيد قد أتاها . لم أرحم ثعابين مثل تلك الثعابين .
قال ابني : أبي أريد أن أمسكها بيدي . فقلت خيراً لك أن تمسك حبل الغسيل من أن تمسك هذه الثعابين . فهي كالبلاستيكية أو أشد جماداً منها . أمسكها و صور معها , و هي تتمنى أن تلحق بأخواتها التي سبقنها بلفظ أنفاسهن الأخيرة .
بعد هذه الإطلالة , كان لابد أن نتجه إلى مكان آخر , فأين نذهب …فكما تعلمون أن اليوم هو اليوم الأخير من الرحلة , فلابد أن يكون لنا زيارة للسودة , فنودعها و نستمتع بلحظات في أعالي جبالها , فمن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال كان اتجاهنا . تركنا الحبلة خلفنا , و مررنا بمنتزه الأمير سلطان , و القرعاء …
و شققنا أبها , ثم أخذنا الجبل المحبب إلى نفسي و الذي يرميني إلى حيث الهوى رماني . حيث جبال السودة . إن أكثر ما يميز السودة أنها تخبأ لك مفاجأة سارة بالتأكيد , و لكن ماهي ؟ هل هي سحب و غيوم , أم شمس و ظل و نسيم , أم أمطار و قطرات . لا تفكر كثيراً بماذا ستكون المفاجأة فكل أمر تتصوره بيد الخالق سهل و يسير .
كان المخطط أن سيكون الغداء تحت شجرة من أشجار السودة , أما أن نستظل بظلها عن أشعة الشمس الدافئة , أو أن نحتمي بأوراقها عن قطرات المطر الهاطلة . يساعدنا في ذلك أن الوجبة قد أعدت من قبل , فكل الذي علينا أن نختار مكاننا , و أن ننعم برائحة القهوة و هي تنشر رائحتها في جبال السودة , لكن عندما أقبلنا على السودة . كانت المفاجأة هذا اليوم من النوع الثقيل , فالسحب السوداء تغطي الأفق , و السماء بالأرض تكاد أن تلتصق, و بدأت حركة الناس تزداد و تضطرب .
فالطقس يخبر بأمر قد يطرأ و يستجد . الناس قد ضاقت بهم الطرقات , و قد غادروا أماكنهم من تحت الأشجار و الخيام , و أخذوا الحيطة و الحذر , و ضلوا يشاهدون الحدث , و يترقبون النتيجة من خلال نوافذ سياراتهم . و أحسنهم حالاً من ذهب إلى المطاعم المنتشرة , و استأجر كبينة , و بدأ يراقب الوضع من خلال زجاج كبينته . الرعد صوته يتقدم , و الكون يتحول إلى عالم مظلم , فكأنك في ليل بهيم . و كل حين تشاهد خطوط البرق تمتد من السماء حتى تلامس الأرض . بضوئها الكثيب و تعرجاتها المهولة . أما أنا و أسرتي فقد اخترت شجرة , فأوقفت السيارة تحت أغصانها , رغم علمي بخطورة هذا الموقف في أوقات البرق و الرعد , و لكن خوفي من العواصف , و ما تحمل هو الذي حملني على هذا الأمر , و حصل ماتوقعت فقد هطلت السماء بماء منهمر , و ألقت السحب بأمر ربها مافي بطنها من المطر و البرد . حيث بدأت زخات البرد تضرب الأرض و الأشجار . حتى تهلهلت أوراقها , وغدت الأرض تحت الشجر خضراء من الأغصان و الورق , و البعيدة عنها بيضاء من البرد . صوت البرد و هو يضرب سقف سيارتي و بتسارع مهول يجعل الخوف يدب في قلوب الصغار و الكبار . لأملك أما هذا القضاء و القدر إلا أن أدعو الله بسرعة الفرج . أضع يدي على زجاجة سيارتي الأمامية , و كلي خشية أن تتفتت بين يدي بفعل الضربات القوية من بلورات البرد و التي رأيتها تزداد حجماً و ترميها الرياح بقوة على جوانب السيارة . أيقنت أن البرد قد أصاب السيارة بأضرار بليغة , و أنني سوف أذهب بها إلى مكتب التأجير و أدفع تكاليف مضاعفة , فلما هدأت العاصفة , خرجت من سيارتي المستأجرة لأطمئن عليها , فوجدت فضل الله واسع فقد كانت الأغصان تخفف سقوط البرد على السيارة قبل أن تصل إليها . تنفس المتنزهين الصعداء بعد أن توقف هطول البرد , و استمر المطر فقط .
خرجوا من بين الأشجار , و أخذ يلملمون بقايا أغراض رحلتهم . و ما بعثرته الرياح من بعدهم . أما الأطفال و الصغار فقد أعجبهم أن تحولت أرض السودة إلى قطعة بيضاء في فصل الصيف و ليس الشتاء , فأخذوا يتقاذفون بكرات البرد المتبقية …
و بعد وقت يسير خرجت أشعة شمس عسير لتذيب المتبقي من البساط الأبيض , و تحاول أن تمسح بقع من الماء المتساقط . تذوب قطع البرد فتكون جداول صغيرة تمر بين الأشجار , و ثم تختفي من بين أغصانها , و أعشابها , و أحجارها . علم الناس أن الأرض لم تعد تناسبهم لقضاء بقية اليوم . فرطوبة الأرض , و خشيتهم من تكرر الحدث , و خوفهم على أطفالهم من موجة البرد التي هبت . لذا فقد خرجوا من السودة زرافات و وحداناً ليبحثوا عن مناطق أقل ضرراً و ارتفاعاً , أو لم تصبها سحابة السودة الصيفية فلم يكن للماء في أرضها بقية . اكتظت الشوارع بالسيارت نزولاً إلى إتجاه أبها …
و كانت سيارتي من بين السيارات الهاربة من تلك الأرض الغارقة . و لقد كان يوماً مشهود بالبرد و العواصف , حتى أن أحد الأشخاص ممن أعرفهم باسمه و أذاعت الصحف خبره توفي أثناء العاصفة الرعدية و هو يتلقى مكالمة هاتفية من على أرض السودة , بينما كانت عائلته بمرافقته – فرحمه الله تعالى – و أيضاً من الأحداث أن توقفت العربات المعلقة بعائلة لمدة خمس و أربعون دقيقة و هي معلقة بين السماء و الأرض , فنسأل الله اللطف بنا و الرحمة . و على أخوتنا المغفرة . خرجت من السودة حتى ابتعدت عن جبالها العالية .و وصلت إلى منطقة أقل سحباً , و ابعد عن المرتفعات العالية , انعطفت ذات اليمين , و ذلك لأتناول وجبة الغداء المنتظرة , اخترت جبل مطل على قرية .
هذا الجبل يردد من بين جباله أصوات الرعاة و ثغاء غنمهم , بل يكبر أصوات بيوت أهل القرية و أطفالهم , فكأن الجبال أخذت على عاتقها بترديد مقالهم . فتنشر الود بينهم و تنقل لبعضهم سرورهم و فرحهم و أخبارهم . هدأ أطفالي – أيضاً الكبار – بعد هذه العاصفة , و اخترنا مكاناً علياً لتناول الوجبة , فسبحان الله فتلك الأرض لم تصبها قطرة .
فتحنا الحافظات فانتشرت رائحة الكبسة التي أعدت بصورة رائعة , أو أن الجوع قد عمل عمله فأصبح بنظري بهذه الصورة – ليه مستخسر أن تثني على طبخ الريحانة …صحيح رجال مالكم أمان – بعدما وضعنا سفرة الأكل , و نوعنا فيها المشارب و المآكل و لله الحمد , خرجت علينا من بين الجبال البعيدة سحابة سوداء مظلمة , فبدت أشد من أختها التي سبقتها .
بل يسبقها صوت الرعد و زمجرته , فسبحان من سبح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته . لما نظر أبنائي و زوجتي و أيضاً أبيهم لهذا القادم من بعيد طلبنا من الله الحفظ و العون , و أن يجعلها سقيا رحمة لا غرق , و لا عذاب , و أن يجعلها في بطون الأودية و الشعاب .
أراد الله سبحانه و تعالى أن يسوق هذه السحاب بسرعة عجيبة عبر رياح هبة من جهتها . بل لم يتوقف الأمر على ذلك بل من خلف جبل آخر خرجت سحب أخرى بيضاء ثم تبعتها رمادية ثم سوداء . فأظلمت الدنيا من حولنا .
و سكتت أصوات أهل القرية التي بقربنا , و أخذ الراعاة يطردون غنمهم باتجاه محلاتهم . فلا تسمع إلا صوت الرعد من بين الجبال يدوي , و الأغنام بسرعة تهرب . أنهينا الغداء بسرعة قياسية . و بالحلق غصة , و بين الأيدي بقية من الأطعمة .
فنفضنا أغرضنا بسرعة , و ركبنا سيارتنا لنحاول أن نهرب من عالي الجبل الذي هو بالتأكيد معرض للصواعق و البرق بصورة أكثر .
و عندما وضعنا أرجلنا بسيارتنا و إذ السماء تنقسم ببرق يكاد أن يخطف الأبصار …ثم ثواني فيتبعه صوت صواعق تكاد أن تذهب بالعقل و السمع . رحماك ربي خلقتنا من ضعف و أوكلنا أمرنا إليك بقوتك و عزتك . أحس بصوت الصواعق يهز سيارتي , و نور البرق يأتي من كل مكان . لم أخشى شيء سوى أن يصيب الهلع أطفالي و أمهم التي لم يروا مثل هذا من قبل . و أصدقكم القول لم أره حتى في أكثر البلدان الأوربية عرضة للصواعق و الرعود . و لقد مر بنا في ألمانيا عواصف موسمية و لكن لم تكن بمثل هذا الذي رأيت . لم يكن يسكن الطرقات سوى سيارتي التي تنزلق و بسرعة لتهبط إلى قاع الوادي , و لتتعدى المرتفعات العالية , و تهبط إلى منطقة أكثر أمناً , أيضاً خشيت إن لم أخرج من هذه المنطقة و بسرعة أن تحتجزني الأمطار عبر أماكن أخرى مررت بها و هي ليست معبدة . لم يدم الوضع كثيراً , فقد كانت سحابة صيف مرت على تلك الجبال و أروتها ثم غادرتها .
كانت محتاجاً أن أودع أبها بصورة أفضل حالة القلق التي أصابتا , لذا بحثت عن جلسة رائقة تنفض عني غبار التنقل و الترحال الذي طاردني شبحه منذ الصباح الباكر .
دخلت إلى قرية صغيرة . فبحثتن عن مزرعة لأستظل بظل شجره . وجدت مكاناً مناسباً في احد مدرجات المزارع القريبة من الجبال . و هذا المدرج يطل على طريق أبها – السودة .
كان علي أن أحمل أغراضي و خيمتي و القهوة و شاي . ثم مددت فرشتي تحت تلك الشجرة , و أخذت أرقب المزارع من حولي .
و بعض العاملين بها من أهل تلك القرية . حيث يجدون بطلب قوت يومهم , و التزود مما تحمله مزارعهم من زرعهم . فواكه , و خضروات , أو حبوب متنوعات . تنظر إلى المزارع و هو يتفقد كل شجرة . فينظر إلى مزرعته قطعة قطعة .
و ثم ينطلق إلى أحواضها و ينظر إلى الماء و إلى أين وصل , و العامل ماذا عمل . و الثمار أيها استوى و نضج . و الطيور و الحيوانات هل نظفت حظائرها و أعد أكلها . عمل دؤوب و سعي مستمر .
علاقة دائمة بين الخالق و المخلوق . فأرباب المزارع هم من أقرب أصحاب المهن إلى الله . فهم يتعاملون مع خلق الله مباشرة . فهذه الزروع تشق الأرض و تنبت من بين الجبال و تخرج بميعاد .
و هذه الأوراق تخرج من الأغصان رطبة ندية تخضر فترة ثم تصفر فتسقط . و هذه الزهور تتكون من بين التويج و الكأس فتكون أطرافها . و هذه الثمار تخرج من أكمامها . و هذا الثمر ينضج بوقته و يقطف بموسمه .
و هذا الزرع يزرع في حينه و ينبت بموعده . و هذا العشب يخرج بدون بذر , و هذا الزهر ينشر عطره بدون أمر .
و هذه الأرض تصلح لنوع معين من الزرع و لا تصلح لغيره مما ينبت في الأرض . و هذه القطعة من المزرعة تصاب بخير و بجانبها قطعة أرض تصاب بمرض .
و هذه الحديقة تغاث و غيرها فوقها الغمام و بجدب تصاب . حكم الإله تجعل المزارع دائم في تفكر و تأمل . و تجعله مربوط بخالقه أبد الدهر . أما أرباب المهن و الحرف فهم يتعاملون مع آلات عملت بأيدي البشر فتجده دائماً يبحث عن صانعها ليعالجها , أو مخترعها لينظر حلاً في مشكلتها . و عندما توافق مزاجه و تعمل بصورة مرضية له يقول : بارك الله بمن صنعها فنعم المصنوعة هي و نعم الصانع هو . و عندما تمل نفسه منها إما بعطل أو ملل . فيسلط على صانعها أقسى الكلمات و أشد العبارات . فتلاحظ أنه يتعامل مع بشر مثله فهو بمنزلة أقل من منزل المزارع المعتمد المتأمل المتوكل المناجي لربه .
بسطت بساطي , و أعددت قهوتي التي توافق مزاجي . و ذهب أطفالي لممارسة هواية استجدت في أذهانهم و هي تسلق الجبال الوعرة بحجارتها المرتفعة .
حيث تذهب أبنتي الكبرى مختفية عنهم حتى لا تمل من متابعتهم . ثم يتبعونها واحداً واحداً . لينظر ماذا يخبأ الجبل لهم . و عندما يجتمعون فوق سطحه .
تبدءوا أصواتهم لنا . إننا نراكم بصورة مصغرة . نحن نرى القرية كاملة بغنمها , و حقولها , و سياراته التي تدب على أرضها . و هكذا يدهشهم المنظر عن كل أمر آخر . بينما الريحانة تعد , و تطهو , و تمارس أهم برامجها الرحلاتية ..
أذهب أنا و أنظر إلى الأرض بماذا تزهو . فأتفحص زهورها , و أشم عبيرها , و تستهويني نسماتها .
أتنقل من مدرج إلى مدرج و كل مدرج فكأنما خصص لنوع معين من الزرع أو الزهر . و كل مدرج قد تبقى به بعض آثار القطر . و كل مدرج يتسابق على أخوته بأن منظره هو المنظر الذي يسر .
نبتعد و نقترب . نجتمع و نفترق . نصعد و نهبط . و نتحدث و نضحك . نصوت و نهمس . ننادي و نحادي . و كل في أمرنا إلى سرور
نسمر ونتجاذب أطراف الحديث , نأكل و نشرب , تمطر وتشرق , تهب نسمات ثم تعصف بهبوب عاليات , يخفت كل صوت ويرتفع كل همس . ويبقى صوت الطبيعة ولحنه الجميل يغني بأحلى لحن , حتى أن الأغنام و الماشية تكاد أن تتراقص مختالة بجمال منطقتها ,وجميل طبيعتها وحسن جوها .
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء المرسلين ,و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ,و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك . ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقات جديدة عن رحلتي إلى إيرلندا
محبكم / نسيم نجد
روابط بقية الحلقات :
تقرير رائع جدا و كل صورة من التقرير احلى من الي قبلها
اتمنى لو ازور ابها
استمتعت جدا بالموضوع. يعطيك الف عافية.
مرحباً بالقائد : رشيد
و حياك الله أخي في زوايا موضوعي
و حياك الله تحت ظل أشجار أبها البهية
كان لنا شرف مرورك
فلا حرمك الله الأجر و المثوبة على جميل أعمالك للمدونين
تحياتي لك
أخي الحبيب : max-x
زرتنا فسعدنا
نثرت الحروف ففزنا
اتمنى لك أن تزور أبها في أقرب وقت
تحياتي لك
الله يعطيك العافيه وحياك الله ضيف لدينا في الاعوام القادمة