مساء الخير عدت إليكم بوجه صبوح
عفواً قد يكون بدء الموضوع بمثل هذه الصورة في أول صفحة من صفحات الرحلة يعكر على البعض صبحه أو مساءه , أو حتى ظهره أو ضحاه أو عشاءه . و لكن هي الرحلة التي قمت بها تستلزم أن أبدأ بهذه الصورة . ناهيك عن ماتحمله هذه الصورة من نظرات الأمل من عينيه , و الشغف بطلب الرزق و العمل و التي تبدو على أطراف شنبيه . و إن لم تعجبك أيها الزائر لموقعي هذه الصورة من الممكن أن تستدعي أطفالك لتأملها فحتماً سيفرحون بها . و إن استوحشوا منها أو هربوا من الخوف من تقاسيم صاحبها . لا تكن متشائماً أبداً فاستدعي الولية ” المدام ” فقد يعجبها المنظر و تضحك و تسر , و قد تنسى مشاكل و يزول من القلب حزنٌ و هم . و إن لم تصل إلى ذلك و استبدلتك الزوجة بلكمة خطافية , أو بكلمة جارحة تغني عن مئة جملة , أو بتكشيرة تسد النفس لمدة سنة شمسية . فهناك أرجو أن تراسلني على بريدي الخاص لأغير هذه الصورة .بشرط أن يكون مع الرسالة أمر من الزوجة أو الأطفال بذلك .
و أكرر أعتذاري مرة أخرى عن الصورة , و أعلم أن العذر وحده لا يكفي . إذا لم نزد معه بصورة تذهب وحشة الصورة السابقة , لذا فقد وضعت صورة أخرى تنزل بالنفس الطمأنينة , و تجلب للوجه الأبتسامة .
و الصورة وحدها لا تكفي إذ لم تشرح الصورة بصورة كافية . فأدعوكم لتتأملوها معي . فالمتأمل للصورة السابقة يجد فيها مستويين من الوضوح , فالمستوى القريب …فيه الألوان باهتة و الصورة غير واضحة . و المستوى البعيد… فيها الألوان رائعة و التفاصيل نقية صافية . و عندما أرى مثل هذه الصورة يتبادر إلى ذهني سؤال . لماذا دائماً نطمع ببعيد مجهول و تعجبنا أسراره الخفية , و نزهد بقريب معلوم و إن فاحت من حولنا رائحته الزكية . لماذا نبعد النظر عمن حولنا , و يقتصر النظر على البعيد الذي لا يناسبنا أو ليس لنا. لماذا ننظر إلى مايملك غيرنا و ننسى أو نتجاهل مابين أيدينا . أقترب بنظرك في كافة شئون حياتك فسوف تجد فيها أشياء جميلة , و أن ذلك الجمال الخفي على عيوننا قد يملك طاقات مكبوتة و بحاجة إلى أن نفجرها لتفيض حياتنا بالسرور و السعادة . لا تعتقد يامن تمر على هذه الصفحة أنني أتحدث عن مجهول بعيد , لا فلا تبعد بنظرك و أنظر إلى أقرب الناس إليك , وأنظر إليه بتفاؤل فستجد بين يديك زهرة رائعة جميلة و إن أعتادة عليها عيونك و أصبحت مع الوقت بألوان عادية باهتة . لا أعلم يبدو أنني خرجت كثيراً عن الموضوع , و لكن قد تكون عيون القرد العسلية و الزهور الندية سبباً بهذا البعد الرومانسي . ” ابعد هذا تريدون صورة أخرى بأبعاد رومانسية أو عيون عسلية “
أعود لرحلتي و التي تأخرت بسرد بقيتها عليكم . و أفتتحتها أيضاً بصورة قد لا تروق لكم . فإذاً دعوني أبدأ . فأقول : كان القرار أن نبقى هذا اليوم في وسط أبها , هو قرار أتخذته بنفسي و ليس قرار أحد ثاني من نون النسوة ممن ذهبن معي في رحلتي , قررت أن نتنقل بين أطرافها لنسبر أغوارها . نكتشف سدها الذي أمتلئ بمياه الأمطار , و جبالها التي ازدانت بالأشجار, و ننظر إلى أوديتها و شعابها التي كانت منذ لحظات تحتضن القطرات , و نتجول في الأحياء الراقية مثل أبها الجديدة و المشاريع المصاحبة .نرقى إلى الجبال المحيطة من جهة السودة , و التي أتخذها الأخوة الكويتيون مكاناً دائماً لزيارتهم و محل إقامتهم في إجازاتهم , فشيدوا فيها المنازل الأنيقة و القصور الفارهة . و في اتجاه آخر لنا جولة عبر الأجواء . حيث تأخذنا عربات التلفريك المتعددة على سفوح الجبال المحيطة . لكن السؤال الذي يفرض نفسه . من أين نبدأ رحلة اليوم ؟ لعلي لا أجعلكم تحتارون كثيراً في الوجهة . فلعلي اخترت وجهة مناسبة أبدأ منها . تناسبني , و تناسب أطفالي الصغار , و أرجو أن تناسبكم . فقد كانت البداية من أحد فنادق مدينة أبها , أعتقد أن مسماه ” شفا أبها ” و لست متأكداً من المسمى فلدي حساسية من أسماء المحلات السياحية , فأنا أذهب برحلة طويلة و أعود بنصف معلومة , و لكن الذي يهمن عندما أجلس على جهاز الكمبيوتر أن أقفز من حرف إلى حرف لأعبر عن جمال ملأت به القلب , و للأسف فإن هذا الجمال قد غطى على كل المسميات و الأرقام و أنسانيها . أعود إلى رحلتي حيث قررنا أن نتناول قهوة الصباح هناك . و لا يشعركم هذا الأسلوب أن قهوة الصباح و الفندق بدرجة عالية من الرقي بل يستحق نجمة إلا ربع , لكن المطل هناك جميل , و المنظر رائع .
حيث يطل على العقبة الشاهقة و التي تؤدي إلى منطقة الساحل , و بالتحديد يؤدي الطريق إلى جازان , فترى الطريق المتعرج يصغر حتى يظهر للرائي كخط قلم رصاص يتمايل على ورقة .
في هذه العقبة ترى السيارات في أرض تهامة كلعب صغيرة تدبي على سلسلة عظيمة من جبال عسير الشاهقة . فهي تتشبث بعناء لتصل إلى معالي الجبال الخضراء .
أيضاً بالمقابل هناك السيارات الهابطة من القمة إلى القاع حيث تسير مسرعة , و يواجه قائدها العناء الأكبر ليمسك بعنانها , و لتسير خلال الخط المرسوم على أطراف الجبل الذي تعانق رؤوسه الغيوم و الغمام .
تختفي السيارات خلف الجبال تارة ثم تظهر تارة أخرى , و تخفيها السحب مرة , و تبتلعها أحضان الجبال مرة أخرى . حركة مصغرة تجعل المرء يسرح بعيداً مع كل مركبة تظهر على تلك الجبال إما في الروحة أو في الغدوة . أيضاً تظهر الحقول التي تقبع في قيعان الأودية و على مدرجات الجبال كمربعات صغيرة من الحقول الخضراء الجميلة .
على جانب آخر مهم جداً بالنسبة لأطفالي – و لي أيضاً و إن أبديت غير ذلك – هناك القرود التي اجتمعت على نوافذ مقهى الفندق , فهي تصعد و تتسلق الجبل لعلها تحظى بقطعة موز , أو كسرة خبز , أو بقية من مشروب .القردة تحب اللهو و العبث , و الأطفال أكثر منها حرفة في هذا المجال , يرمون القطع المتبقية من الأطعمة , و عندما تقترب القردة من الأطعمة يرمون عليهن قطعة أخرى فيهربن . و هكذا دواليك كر و فر بين القردة و الأطفال . هل تنتهي فصول العبث و الشقاء بينهم…. بالطبع …لأ . تذهب القردة لتبحث عن طريقة جديدة للحصول على غنيمة جديدة . الأطفال يحبون هذا الحيوان المرح , و يحسون بروح المرح تدخل إلى قلوبهم .
بعض القردة قد ألهته همومه عن كل زائر أتى ليستمتع هو و أطفاله . فتجد القرد شارد الذهن , يتأمل بقاع بعيدة للعالم من حوله .
في جانب آخر يسعى الأطفال بتقديم الأغذية لهذه القردة , و نحن من خلفهم نوجههم . ظاهرنا …دعوتهم للحفاظ على البيئة , و بداخلنا ..خوفنا أن تلتهم تلك القردة بعض ما جلبنه للرحلة .
أما القردة فهي تحك رأسها… معلنة تجاهل التعليمات و استمرارها بتتبع الأطعمة و المشروبات
و مرة تظهر لنا بمظهر الحيوانات الحزينة , أو البريئة و التي تستحق الرأفة , و من ينظر لعيونها يعلم ماتخفيها من دهاء يتعوذ منه أكثر الثعالب دهاءاً و مكراً ..
و عندما ترفع رأسك , فسوف تجد مجموعة أخرى من فوقك , تبتسم لك …و هي تنتظر أي فرصة لتخطف الطعام من بين يديك …
من هناك …و من بين أغصان الأشجار تطالعنا مجموعة أخرى من القردة , و هي تقبل ثم تدبر . ثم تلبث في مكانها و تنتظر ….تنتظر أن يقدم أصحابها ببعض طعامها…و لكن لسان حال الأخريات …هيهات هيهات و نفسي نفسي …
فيصيبها الحزن و الهم . ثم تأخذ تفكر و تتأمل كيف تحصل على مرادها …
فلم يكن من الكبير منهن إلا أن ترك الصغار و ذهب ليأتي بنفسه بالطعام ….
في جانب آخرتوجد مجموعة أخرى…زوج و زوجه بين يديهم طفل يعبث بينهم , يقفز من على الأم و يذهب إلى الأب , و يبتعد ثم مايلبث أن يعود…في شقاء دائم …
هناك الكل ينظر لما تجود به يداك ,هناك الصغار و الكبار , النساء و الأطفال يتحدون عليك , حتى يحصلوا على مبتغاهم , ثم يختصمون فيما بينهم من أجل لقمة العيش التي تقيم صلبهم . فهم يعملون بمبدأ أنا و أبن عمي على الغريب و أنا و أخي على الغريب …و من بعد ذلك يعلمون أن البقاء للأقوى فيكون الصراع الداخلي فيما بينهم …نحن بسرور في صراعنا معهم …أو عندما ننظر في صراعاتهم مع بعضهم …لأننا بالأصل أتينا من أجلهم , و المتعة بمتابعتهم و النظر لشقاوتهم .
أم تحتضن طفلها …و أخرى تمسكه مع ذيله , و كل ذلك نابع من عطف الأمومة و حرصها عليه , و هل تعتقدون أنها خائفة من أطفالنا عليه , فنحن كذلك نتابعهم في كل لحظة و إنما نخشى على أطفالنا منهم . فسبحان الله الذي وزعه الرحمة على خلقه ….فسبحان الله العظيم الرحيم .
أما هذه فهي الأنثى المسكينة فتدور من حول بعلها , و تتقرب إليه بفحص شعره , أما هو فهو في سبات عميق لا يعلم مالذي تقوم به الزوج العطوف , و لا بالذي تتكبد من أجله أثناء نومه …. يعي هذا القرد الخامل ماتقوم به هذه المسكينة ….أم أنه سوف يستيقظ ثم يقول مافعلت خيراً قط ؟! و لا يفهم من كلامي معناً آخر…فحديثنا عن القردة و القرود!!
بعد برهة تجرأت القردة , فمن كان بعيد أصبح عندنا قريب , و كأنه يقول : مرحباً بالضيوف , و حللتم أهلاً و وطئتم سهلاً , وأكثر الله خيركم , و زاد الله من بقايا طعامكم …
في استراحة محارب , يتم تبادل المعارف و الخبرات بين الفتيان و الفتيات , فمن كان من المهارات في تخليص الحشرات من بين الشعيرات فعليه أن يهب بمساعدة البقية من القرود و ذلك في سبيل فزعة أخوية . فكانت هذه النخوة من قردة على صخرة لأختها القردة .
بعد فترة تحس القردة بأنها بحاجة إلى فترة راحة . تستلقي على أحد الصخور و تأخذ بالعبث بشعور أطفالها .
و أخر منهن يضعن أطفالهن على ظهورهن و يبدأنا بالتنقل من جيل إلى جبل .
أيضاً غير بعيد من على صخور ذلك المطل يغرد طير , و يصدح طير , يطير طير و يهبط طير, في مشهد رائع يسر…
عندما انتهت فترة الاسترخاء بضيافة القردة الأشقياء . كان لنا أن نذهب إلى منطقة أخرى , و ذلك لنتناول وجبة الغداء , اخترت مطعم مطل على السد , كل شيء في ذلك الموقع جميل المنظر . يبدأ من جمال الجبال المحيطة وينتهي البصرببحيرة السد العظيمة .
أيضاً هناك الملاهي الترفيهية قد أخذت مكانها على طرف البحيرة . شكل لون البحيرة , و أركام السحب المتلونة في السماء , و منظر أبها الجديدة منظراً فريداً يظهر بأجمل صورة يتراقص هذا المنظر تحت صوت القطرات .
كانت زخات المطر هي الزائر لنا في ذلك المساء , فصوتها يقرع رأس سقف الغرف المطلة على تلك البحيرة .
من جهة أخرى تطل علينا أبها الجديدة و تتلون بألوان فريدة , عندما تشع الشمس تنعكس جمال مبانيها على صفيحته , و عندما تمطرنا السماء تهتز صفيحة الماء بكل محتواها من رسم أشجارها و زينة معمارها ..
أيضاً زارنا في مطلنا الحلزون , فيبدو أن صحى للتو من رقدته , و أبى إلا أن يشارك الجميع فرحته , فقد قرأت ذات مرة من طريف أخباره أن ينام لمدة ثلاث سنوات متواصلة , فلما رأيته بشكله و شحمه قد وصل . أكبرت لطفه و كرمه و إحتفائه بضيوفه …فصباح الخير ياحلزون…إن كنت بالفعل أنت الحلزون الذي يذكرون ….و إن كنت غيره فمرحباً أيضاً أنا تكون…
في الأرض المجاورة للكبينة المطلة , نبتت أزهار مختلفة , نبتت بدون أن تشارك بها يد صاحب المطعم , و الذي أعتقد أنه لو علم بها لأقتصها من جذورها , فمتأكد أنه يحزنه أن يجد المرء شيئاً جميلاً بمطعمه …أو لو تعلم هذه الزهور ماتحتويه تلك الكبائن من إتساخ دائم لما لبثت في مكانها ساعة ….
أيضاً لم تنسانا الفراشة من الزيارة , فقد حطت برقة على طرف النافذة فكانت لها هذه اللقطة , لا أعلم هل هربت من القطرات التي أشتدت و زادت . أما أنها أتت لتلقي تحية المساء على نسيم نجد و صغاره ….
كل شيء في ذلك المكان يسُر …إلا أن المطعم المطل لا يسر صديق أو عدو . فأرضيته قد فرشت بفرش بالية قديمة . و لم يتوقف الأمر على ذلك بل فيها قطع ممزقة و كأنها تشكي الأيام و الليالي من عدم الاهتمام . أما الذباب – أكرمكم الله – فله في أجواء ذلك المطعم صولات و جولات , فهو يحلق من كبينة إلى كبينة بخفة و مرونة . فهو قد سمع بالمبيدات التي تقضي على جميع الحشرات , و لكن لم تمر على أنفه و لم يسبق أن خنقت نفسه , أما السفرجية فهم بأشكال مختلفة , و ملابس متفرقة, و يجمعهم شيئاً واحد …أن ثيابهم متسخة . فأحدهم قد رسمت المرقة على ملابسه خرائط دول العالم مجتمعة . و احدهم يزعق من بعيد بصوت في الجبال يتردد بأن يعجل زميلة بتحضير سفرة فريدة لضحية جديدة . لم استطع أن أجلس على فرشة تلك الكبية فأنزلت فرشتي الثمينة . و بدأت أتأمل المنظر على صوت قرقرة الكبينات المجاورة . فكل كبينة تفوح برائحة المعسل و تكتم الأنفاس بالجمر المتوقد , و تفور النفس من صوت النادل , و رائحة التعميرة , و تحليق الذباب الطائر . و لا أعلم أين البلدية من هذا المكان . أم أنهم في سبات عميق لم يكتب لها منه أن تفيق . فموقع رائع , و مطل استراتيجي , و محل فسحة و استراحة ..تكون بهذا المستوى المتدني من النظافة . أعتقد أن في الأمر سر , و السر في بطن الشاعر . و الشاعر لم تعد تهمه المشاعر…” صورة مع التحية لصاحب المطعم المطل “
بعد أن خفت الزخات , و ظهرت الشمس على رؤوس جبال عسير , و أدينا صلاة العصر في ذلك المطل . كان لنا موعد مع مكان آخر من أماكن أبها الترفيهية , حيث الموعد مع التلفريك الذي ينقلك من أحد الجبال المحيطة بأبها إلى الجبل الأخضر في وسطها .
أوقفت سيارتي و نزلت ثم تبعتني أسرتي عبر طريق متعرج , المقصد منها أن تصل إلى التلفريك و كأنك مغامر متسلق . تحمست للتجربة بأن أمر أنا و أطفالي من بين الصخور…
من بين تلك الممرات نطل على مناطق مختلفة من جوانب أبها البهية , و نعرج على تضاريس جديدة …شجيرات و أشجار , نسمات و رياح , صخور و جبال …يال الجمال..
و يكتمل جمال تلك الصور الرائعة عندما أعبر من تحت الأشجار , و يطاردني أطفالي الصغارفأسمع أنفاسهم الثائرة , و تلفحنا النسمات الرطبة الباقية من القطرات الممطرة , كان ذلك جداً جميل , و أجمل منه عندما يمر من فوقك تلفريك فيه عائلة كاملة يلوحون بأيديهم و على وجوههم تبدو فرحة عارمة ….فنصبح بشوق عظيم لمثل تلك اللحظة ….التي تقلنا فيها تلك العربات في أجواء أبها الممطرة ..
فلما وصلنا للمرحلة الأخيرة . و قرب الوصول للوصول إلى منصة الانطلاق بالعربات المعلقة , وقفت أمامنا عقبة كأود من الصخور المرتفعة , و لكن قد تم عمل درج ليسهل الصعود عليها , و من ثم الوصول إلى الهدف عبرها . و لكن الذي لم يكن بالحسبان أن كانت هذه الدرجات قد كسرت , فتناثرت أشلاؤها , و تفتت أجزاؤها , و تطايرت حبيباتها . فغدت أثراً بعد عين , و حلماً بعد واقع . نظرت إليها و كيف أتصرف معها و معي أطفالي و عائلتي , و كيف يستطيع أطفالي أن يصعدوا إلى أعلاها , أو كيف تستطيع زوجتي التي تلبس عباءتها أن تتعدى هذه العضلة . ناهيك عن كبار في السن ينتظرون أن نتجاوزها ليعزموا أن يبادروا بعدنا . أطلت الوقوف حتى أجد حلاً مناسباً لهذه المفاجأة و التي أعتقد أنها من مفاجأة أبها لذلك الصيف . درت ببصري على من حولي و لم استغرب عندما وجدت مجموعة من الأحذية – أكرمكم الله – ممزقة و متناثرة بالقرب من تلك المنطقة . فهذا بعض أثر التسلق الخطر لتلك الصخور . أمسكت بأيدي أطفالي وصعدت بهم . ثم رجعت و أمسكت بيد زوجتي لتصعد , و نظرت من حولي فإذا نظرات الاستغراب تحيط بي . و علامات التساؤل الاجتماعية تدور من حولي . و كأن لسان حالهم يقول : لا حول و لا قوة بالله وصل الانقياد للمرأة , و التحرر من العادات ,و التقليد للمسلسلات أن يمسك هذا الرجل بيد زوجته أمام هذا الجمع . و أن يأخذ بيدها ..بدون أن يضع بينه و بين الناس ستراً يستره . ثم تحس بهمس في نفوسهم و كأنهم يقولون : ” مسكين واطية على راسه ” أو كأنهم ينظرون لحالي و يقولون : أكيد مدرسة و هي التي قد تكفلت بكامل الرحلة , لذا فهو ينقاد و بسهولة لأوامر المعلمة . لم أسمع بهمساتهم و لكن أعرف نظرات مجتمعي . استطعت أن أصعد ذلك الجبل , و لكن الذي يخاف على أولادة يجب أن يكون على حذر . ففوانيس الإضاءة على ممحطمة و على الأرض مرمية . و أسلاكها منكشفة عارية . فتنهدت كثيراً على أن وجدت قيمة الإنسان يعبث بها مراقب مهمل لم يراعى الله في متابعة عمله . أو مراقبة من تحت يده . و سألت الله أن يلطف بكل من يمر بجانب تلك الفوانيس المتساقطة في كل جانب و زاوية . لم أشأ أن أصور تلك المناظر , و تلك المهازل , فلو صورتها فلن تخرج من ذهن القارئ بسهولة , بل ستبقى سنين عدة قبل أن يتجرأ أن يعيد الكرة مرة أخرى في السياحة الداخلية . و كنت أتمنى أن أسأل أهل السياحة عن أسباب تلك المهزلة , و لكن خشيت أن تحول المعاملة على وزارة التجارة و يقال : هي التي تستورد البضائع الفاسدة , و من ضمنها الجزم المقلدة , و هذا يجعلها قابلة لأن تتمزق في أي قفزة غير محسوبة لأي درجة مكسورة . و أعلم لو زرت التجارة لقالوا :أن شكواك باطلة فيجب أن تقدم الشكوى لرئاسة رعاية الشباب . فهم الذين لم يهتموا برعاية و تدريب الشباب على أحسن حال حتى يستطيعوا أن يتسلقوا الجبال …فعجباً على هذا الزمان الذي يعتبر تحويل الأخطاء على الآخرين من عمل الأبطال . لذا رأيت أن أصل إلى العربة المعلقة بأي طريق , و بدون أن يكون هناك شكوى أو بث حزن على ألم . بلطف من الله و توفيق منه و صلنا إلى العربات المعلقة , و بحسن حظ رغم سوء الطريق و صلنا إلى المنصة . ركبنا أول عربة , فتعلقت بنا العربة من جبل إلى جبل .
فبدت أبها صغيرة متنوعة . فيمر بوسطها أودية متعرجة جميلة . و تحيط بتلك الأودية الحقول الخضراء البسيطة . أحواض الزرع , و مدرجات المزارع , و تنوع ألوان البيوت , و امتداد الطرقات , و وجود الجسور , و حركة السيارات , و روحة الناس و غدوتهم . تجعل المنظر و كأنها صورة خيالية .
فبدت أبها رغم مبانيها كحديقة منظمة بوسط مزارعها الممتدة , و تتغذى تلك المزارع من الأودية التي تسقيها الجبال المحيطة العالية , فمن يشهد منظر أهل تلك الحقول و هم يتجولون بين حقولهم , فيقطفون ثمار زرعهم , و ينعمون بوقتهم …يغبطهم على معيشتهم . و يلهج بالدعاء بأن يزيد الله لهم ..
العربة تسير عبر ذلك السلك المعلق , و النفس تتأمل , و صراخ الأطفال يزيد كلما مررنا من فوق البرج الذي يمسك بالأسلاك , فالعربات تسرع من بعده . و دغدغة في الأحشاء الداخلية تجعل المرء يصرخ بدون قصده . أو تقطع تفكير متأمل عن منظر يتأمله . بعد رحلة ألم و تأمل وصلنا الجبل الأخضر , و منه تستطيع أن تشاهد أبها من كل جانب . فمن فوقه تستطيع أن تمتلك صورة بانورامية جميلة عن تلك المدينة . لم ندوم طويلاً في الجبل الأخضر . رقم وجود جلسات و مطاعم و مقاهي و محلات و وجبات . فقد أراد الصغار أن يتعلقوا مرة أخرى بين السماء و الأرض , أما أم الأولاد فيهولها مثل هذا الأمر . فتصير الأم الكبيرة خائفة مرتعدة . و مع أقل حركة و كأنها طفلة صغيره . فيأنس صغارها بأن وجدوا أمهم بهذه الحالة . فهم يتساءلون أين من يعتبر من الكبار أليس يقال أنهم لا يخيفهم شيء . و أنهم لا يبالون بشيء . أين أمهم التي دائماً ما يصرخون باسمها عندما تواجههم أي مشكلة بحياتهم . يكررون السؤال لماذا أنت خائفة ؟! و هم يتضاحكون . فتجيب بجواب معروف منذ الأزل و هو هروب لمن به الخوف نزل . فتقول : إن هذه العربة ليست كغيرها من العربات التي ركبتها . فهي تنذر بخطر , و نخاف أن يصيبنا بها بعض الزلل . فيتساءل الأطفال بخبث : هل ركبت من قبل عربات معلقة ؟! . فتأتي منها حوقلة لتقطع السؤال و تُنهي عن أطفالها الاستهبال . و صلنا إلى المنصة النهائية للعربات تنهدت الزوجة و بصوت مسموع . تنهدت أنا و لكن بصوت داخلي استطعت أن أكتمه كل فترة التعلق . صاح الأطفال نريد أن نعيد الكرة مرة أخرى…قلت : يله بلا لعب عيال …أمامنا برنامج سياحي طويل …أما القصد الحقيقي فهو عد الرغبة بتكرار التجربة المعلقة .
طفلتي الصغيرة رغم أعجابها بهذه المركبة و لكن شد انتباهها شيء أعظم , فالحديقة التي تزدان بالأطفال و تتجمل بالألعاب هي كل أمنيتها و بغيتها , فهي تردد و بلغة الصغار ” بابا مرديحا ” نعم إنها مرجيحا و لكن هذه سوف نجدها في بلدتنا . أما هنا فدعينا نستمتع بالعربات المعلقة…ثم تصمت برهة و تقول : بابا مرديحا …و من ملاحظة للصغار فإن الألعاب البدائية الصغيرة تشدهم أكثر من الألعاب الألكترونية …أبتعدنا عن أرض الراجيح و صمتت الصغيرة حتى حين ….
بعد أن انتهينا من العربات.. انتقلنا لنأخذ جولة في جبل مطل على أبها و هو حي الموظفين , حين أشتراه مجموعة من الأخوة الكويتيين . فصارت الحارات هناك و كأنك بحي من أحياء الكويت . فلا ترى إلا الدشداشات , أو اللوحات الكويتية على السيارات , و هنا صراخ يهال , و نداء رجال , و ديوانيات نشرت في كل مكان . المكان استطاع الأحبة من أهل الكويت أن يحولوه إلى طابع خاص من سمات الأحياء الكويتية . بل إنني صليت معهم أحد الصلوات فلم أرى إلا الأحباب من تلك الديار …فحياك الله أحبتنا في بيتكم الأول و الثاني , فحيكم الله و المنزل قلوبنا , و المحل عيوننا , و المكان صدورنا….
من على جبل عالي لمح أبني مجموعة من الشباب يتمرنون فقال : هل من الممكن أن ننتظر حتى ينتهون , قلت : ذلك من المستحيل فأنظر لمايحتويه ملعبهم من الكثير من الكور . فلو إنتظرنا كورة فلن ننتظر الأخرى , استمتعنا بالمنظر من أعلى ثم ذهبنا إلى نقطة من نقاط رحلتنا …
بعد الجولة في ذلك الجبل , قررنا أن يكون لنا مطل آخر على أحد القرى القريبة من أبها .
حيث عزمت أن أجعل قهوة العصر هناك , و أن أرقب مغيب الشمس من فوق تلك الجبال , حيث تسكن قرية بين جبال عدة , و تقسمها أودية متفرعة تجتمع لتكون واد عظيم يقسم تلك البلدة .
عزمت أن أطل على أهل تلك البلدة ببناياته الأثرية و بمزارعها المنتشرة . أن أطل عليهم و ألقي عليهم تحية المساء .و أن أحيي بهم حب البقاء في بلدتهم و لم تؤثر عليهم الحضارة المدنية…
مع المغيب الشمس تلبس ثوباً جديد , و الكون يستعد للقاء نور القمر و وداع صفاء النهار . السماء تأخذ لون قرص الشمس , و الأرض تختفي بعض معالمها من وجهها , أنوار القرية تبدأ بالاشتعال واحدة بعد واحدة . فأنوار بيضاء و أخرى صفراء .
على سفوح جبال البلدة و عن أقتراب الليل تتشكل الطرق المتعرجة بشكل يتضح حده عبر فوانيس على أطرافها مصطفة , فتراها تمتد من أسفل الوادي حتى تعتلي الأعلى .
بإختفاء الشمس خلف الجبل , و قدوم الليل بثوبه الوجل , اختفت الأغنام العائدة للتو من المراعي , و لم يبقى سو صوتها الذي يتبارى مع صوت كلب ينبح من بين الجبال .
هنا و من هذا المنظر الرئع أسمع عند موضع قدمي . صوت القهوة و هي لا يقر لها قرار , و رائحتها و هي تعطر المكان , و نور النار الذي يضيء و يخفت و لا ينتهي إلى حال . و طفلي الذي رقد على رجلي , و بنتي التي تغطت بلحاف خوفاً من هجمة البرد الضاري , و ليس هناك سوى همس خافت من الجميع يوازي ذلك همس الليل الخافت الذي نزل ….
و بعدما حل الظلام على تلك القرية و لبست لباس السواد , و هربت عن الأنظار . آثرنا أن ننسحب بهدوء عنها حتى لا نوقظها عبر همساتنا , أو وقع نعالنا , أو ثورة أنفاس أطفالنا , أو غليان دلتنا…. فنزلنا بخفة و إتجهنا إلى شقتنا لنأخذ قسطاً من الراحة .
و في مساء ذلك اليوم خرجنا إلى مدينة خميس مشيط , و هي مدينة تجارية شهيرة في المنطقة , فكانت فرصة أن نتجول في رحابها …
و كان مما صادفنا في زيارتنا لخميس مشيط . زواج في بعض أحياء البلد , و كانت طريقتهم في الحفل رائعة حيث يصطف الجميع و يأتون متماسكي الأيدي و هم يتغنون بالأهازيج الخاصة , فكان دخولهم من باب واسع , فيستقبهم أهل الزوج و ينشدون عليهم أهازيج مرحبة , فأعجبنا ذلك المنظر , فوقفنا حتى ينتهي العرض الرائع , فقالت ريحانة نجد ” زوجتي ” : ليتنا نتعرف على بعض عاداتهم و تقاليدهم في الزواج …فقلت لها كمن وجد فرصة لينغص على زوجته رحلتها , فقلت بصوت خافت . أعطيني الضوء الأخضر و فيحصل لنا أن نتعرف على عاداتهم كلها , حل بالكون سكون ثم أحسست بوخزة معضدي كوخزة ابرة أو اشد قسوة , أو كلسعة عقرب أو أقسى لدغة , أو كصعكة كهرب أو أشد وطأة , فعلمت أن الريحانه قد تعاملت مع الموقف عبر أناملها الحادة …تنحنحت ثم بلعت الصرخة حتى لا أبدوا أمام أطفالي بحالة حرجة …
و عند هذه النقطة انتهى الخبر ….و ألقاكم في الحلقة الأخيرة بإذن الله تعالى .
في ختام هذه الحلقة أتشبث بخيط رفيع بأن تكون قد نالت أعجابكم هذه الصفحة …
و ارسل لكم هذه الوردة لتكون خير ختام للتكفير عن صور القردة المتعددة في أول الصفحة …
تحياتي لكم
نسيم نجد
روابط بقية الحلقات :
جولة جميلة جدا
و صور القرود مضحكة و جميلة جدا
مشكور اخي نسيم نجد
ما شاء الله
و الله ما درينا ان ابها حلوة
اتابع دوما
ورغم انني أبهاويه الا ان تقريراتك المصورة ابدت جوانب جميلة
للمنطقة
موفق
أختي الفاضلة / أبهاويه
أبها حسناء تغري كل زائريها …فليس غريب أن يبدي لجميع أعجابهم فيها..
بوركت أينما كنت
أخي الفاضل /max-x
إزدانت ابها جمالاً بكلماتك
و فاح شذاه بمروركم
و سعدنا بعبوركم
تحياتي لك و لزيارتك الرائعة